عن صلاح القصب.. الرائي المسرحي

منصة 2021/02/16
...

حسب الله يحيى
البصمة البكر التي يوقعها المرء، هي البصمة الدالة على المستقبل.. هذه حقيقة لا بُد من التوقف عندها ونحن نستعيد بصمات الفنان المسرحي د. صلاح القصب.  تلك البصمة كانت مسرحيته (الخليقة البابليَّة) التي قدمها في العام... وعلى وفقها عرفنا سيرة القصب المتلاحقة. كان المبدع الذي فيه، يعرف ما يريد. يعرف أنه إذا أراد أن يشكل حضوره ويشق دروبه الى جانب الآخرين؛ فلا بُد أن يخط لنفسه مساراً يختلف عن سواه، ليس للاختلاف ذاته، وإنما لما يعنيه ويحققه وينجزه هذا الاختلاف عن سواه من المسرحيين الذين حققوا حضورهم قبله.
القصب.. المسرحي المجد والمجتهد، لم يقتف أثر سواه من الجيل الذي كان يحاول أنْ يشكلَ ملامحه من دون بصمات خاصَّة.
القصب شقَّ طريقه وحيداً.. وكانت (الخليقة البابليَّة) إرثه الأول الذي من حقه التباهي به، بوصفه منجزاً مسرحياً غير مسبوقٍ.. ذلك أنه جعل لأعمال الفنان التشكيلي: إبراهيم رشيد حضوراً بارزاً لا يقل عن حضوره المسرحي، وبذلك جعل العرض ينطق لغته الجماليَّة مسرحياً وتشكيلياً.. وهي اللغة التي تفرد بها القصب عن مجايليه ولأنَّه بدأ بداية حقيقيَّة، تركت أثرها وأثارت انتباه الأوساط المسرحيَّة والثقافيَّة والشعبيَّة كذلك؛ حيث وجد القصب نفسه في امتياز له حضوره وله فاعليته وانتباهته ورؤاه.
د.القصب لم يشرح، ولم ينطق حرفاً في تفسير رؤيته، وإنما جعل المتلقي يقف ويتأمل هذه التجربة المجدة والجديدة في الآن نفسه..
ولأنه أفلحَ، ولقي صدى الاستقبال الحميمي؛ واصل القصب مسيرته الفنيَّة، فكان الرائي الأول، والجمالي والمؤسس للصورة في المسرح العراقي..
ولم يكن القصب به حاجة الى خشبة مسرحٍ تقليدي، ولا ستارة تحجب وتفتح، وإنما كانت به حاجة ملحَّة الى أنْ يحجب هو نفسه ما لا تقبله بصيرته وذائقته الجماليَّة، مثلما يفتح بصره وبصيرته بكل سعتهما على عالمه الخاص به.
خصوصيَّة هذه النظرة التي امتلكها د.صلاح القصب، هي وحدها التي جعلته يتفرد في طبيعة مسرحه.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه في منظوره المسرحي هذا، إلا أننا لا يمكن أنْ نختلف على سعة مخيلته الأثيرة ونهجه المتميز في حضوره الأساسي للتشكيل الصوري في سائر عروضه المسرحيَّة.
من هنا كانت (عزلة الكريستال) تستفيد من مدرجات داخل مبنى كلية الفنون.. لترسم الأحداث، والساحة في قسم المسرح، وجدها ملائمة لتقديم (ماكبث) وتجذير حضورها السياسي المعارض والجريء.. ذلك أنَّ العنف الوارد فيها، كان بمثابة الضد لكل ما يشكل إساءة للإنسان والإنسانيَّة.
وفي (الملك لير) اتسعت آفاق رؤيته، بحيث حول حدثاً اجتماعياً الى معطى جديد يحمل عدة أبعاد مثيرة للجدل.
صحيح أنَّ د.صلاح القصب يتمرد على جميع نصوص مسرحياته، وصحيح أنه يعبث بتلك النصوص ولا يبقى منها سوى عنوانها واسم كاتبها، ليصنع منها قلادته التي يصوغها على وفق فهمه ومخيلته.
إذنْ.. صلاح القصب، راءٍ من طراز رفيع، ومثل هذا الرائي يحمل معه كل ما يختزنه من درسٍ أكاديمي وأفاقٍ لا حدود لها.
الأكاديمي عنده.. جامد، وثابت، وتقليدي.. وهو لا يريد أنْ يكونَ جامداً وثابتاً وتقليدياً.. وهذا هو الفنان الحقيقي الذي يتخذ لنفسه مكانه لا تحمل بصمات سواه..
بصمته تكفيه، فهي خزين درس وخزين تجربة وخزين أحلام ورؤى لا تنضب ولا تجف بئرها، إذ يستقي منها القصب مسرحياته.
ازاء هذا الحضور الذي أعطاه القصب دون سواه، جعلنا نتأمل طويلاً وندرك أنه لا بُدَّ من الوقوف عند تجربته الحيَّة وإحساسه العميق بقيم الجمال التي تجعله متفرداً.. ليشكل تأثيره الواضح في جيل من الشبيبة المسرحيَّة التي تلقت معرفتها منه، ونظرت الى نظراته، على وفق المعطيات التي حققها..
إلا أنَّ هذا العطاء المتفرد الذي لقي استحساناً وانتباهاً وجدلاً كذلك؛ جعل صاحبه القصب وهو في خريف عمره، كما ألوانه نخلة باسقة تنتمي للأرض، وترفض أنْ تكون بمعزلٍ عن هذه الأرض وإنْ جفت، وإنْ جدب الزرع فيها، وإنْ اختفت الكائنات الحيَّة فيها، إلا أنَّ ثقته كانت هي الأبقى حضوراً، وأنَّ بصمته البكر ستبقى وتترسخ وتمضي قدماً الى المستقبل وبجدارة لا يمكن تجاوزها وإنْ عصفت العواصف وجفت الجفون من دموعها الحزينة؛ ذلك أنَّ القصب يصلح أنْ يكون مضيئاً في كل الأزمنة.
وإذا كان صلاح القصب قد أخذ حضوره الفاعل في الحياة المسرحيَّة العراقيَّة والعربيَّة لأكثر من ثلاثة عقود بتأثيرٍ من الآخرين؛ فإنَّ هذا الحضور ما زال مجهولاً لجيلٍ مسرحي نشأ بعد 2003، ولم تتوفر وسائل لإعادة العروض المسرحيَّة للقصب، لكي يحكم أو يثير الجدل بشأن أهمية وجدوى هذه العروض التي كانت لافتة ومثار جدل وانتباه أجيالٍ متعاقبة.
صحيح أنَّ القصب لم يكن صاحب مخيلة مجردة من الوعي ـ كما ينظرُ إليه بعض خصومه ـ 
إلا أنَّ القصب تلقى علومه المسرحيَّة ـ شأن عددٍ من المسرحيين العراقيين خارج العراق ـ ومن ثم تأثر بما شاهد وعرف ودرس، وإلا ما كان ليسافر ويدرس ويعود.
وإذا كان البعض يأخذ عليه أنَّه قد نقل تجارب حيَّة من الخارج الى المسرح العراقي، فإنَّ هذا التأثير أمرٌ طبيعيٌ، وأمامنا قول الناقدة كريستيدفا من أنَّ (الأسد مجموعة خراف مهضومة) ووجود أي منجز أو عطاءٍ إنساني، لا يمكن أنْ يكون وليد اللحظة، أو في عزلته الكلية عن العالم، أو إرادته الاستثنائيَّة المتفردة، أو سليل أحاديثه، أو مخيلته الفطريَّة.
الفكر والإبداع هما تراكم معارف ورؤى وتجارب، لا يمكن أنْ يولدا من الفراغ أو من لا شيء، هذا أمرٌ لا حضور له في سلم المعرفة والعطاء معاً.
من هنا كان صلاح القصب يكوَن منجزه المسرحي من رؤاه ومخيلته وتجاربه ومشاهداته وقراءاته شأنه شأن أي مبدع، والفرق بينه وبين سواه، أنَّ الآخر حول ما تعلمه واختزنه الى مادة ارشيفيَّة جامدة، بينما الآخر الذي يمثله جيل المبدعين أمثال القصب، فقد حول هذا الخزين الى مادة جديدة باتت من بنان روحه وعقله وصورته التي هو عليها
الآن. 
كذلك كان إصرار ودأب القصب على أسلوبه الفني البارز هذا، يمثل الكثير من الاعتزاز والإكبار، 
ويحتفظ ـ 
كاتب هذه السطور ـ بالكثير من
المواقف الوطنيَّة والجديرة بالاحترام التي تمتع بها القصب، فقد عرضت عليه عروضٌ مادية عديدة، منها إخراجه لنصٍ مسرحي كانت السلطة السابقة تدعو إليه وتحض على إنتاجه مقابل مردودٍ ماليٍ جيدٍ جداً، إلا أنَّ القصب تمكن من تسويف الطلب بأعذارٍ مرضية شتى، كما عُرِضَ عليه تقديم مسرحيَّة (ماكبث) بأسلوبٍ تجاري ساخر، مع سخاء مالي كذلك، غير أنَّ القصب اعتذر، مع أنه كان يعاني من ظروفٍ ماديَّة صعبة والعرض الذي قدم له، كان من الممكن أنْ يحلَ كل تلك الظروف التي كان يعاني 
منها.
إنَّ وجود قامات إبداعيَّة مجددة في أساليبها المبتكرة وعطائها الثر ومواقفها الجريئة، قامات لا بُدَّ من الوقوف عندها وتقديمها الى الأجيال بوصفها تمثل المنجز الذي ينبغى أنْ يحتذى ويكون أنموذجاً جديراً بالدراسة والانتباه، وصلاح القصب واحدٌ من هذه القامات المضيئة في واقعنا المسرحي
العراقي.