يؤشر فكرة الحميميَّة وكسر الحواجز الوهميَّة بين الافراد

منصة 2021/02/23
...

  د. عذراء ناصر 
«ألن يسبب هذا تدميراً للمخ؟» يردّدُ هذا السؤال جيم كيري أو (جول) الشخصية التي يؤديها كيري في فيلم (إشراقة أبديَّة للعقل النقي) [ Eternal Sunshine of The Spotless Mind] الذي عُرض في السينما عام 2004 وحصل على تقييم 8.3 على موقع (IMDb) والذي حصل على جائز الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي، كما رُشحت الممثلة كينت وينسليت عن الفيلم لجائزة أفضل ممثلة رئيسة.
لكتابة غير المتواصلة
استعمل كاتب القصة شارلي كوفمان تقنية الكتابة غير المتواصلة أو ما يسمى بالـ (nonlinear narrative) وهو نوعٌ يقترب كثيراً من شخصية جيم كيري الذي يشارك المُشاهد حالة من التنقلات عبر الزمن التي تشوش العقل بسبب اضطراب الذاكرة. يحاول أبطال الفيلم محو بعضهم من الذاكرة لتخفيف ألم الفراق الذي يتبع الانفصال وصدماته. لكنَّ “جول” يكتشف أثناء رحلة المحو أنه أعاد اكتشاف علاقته بكلمنتاين التي تؤدي دورها الممثلة كينت وينسليت وأنَّ كل ما كان يعتقد أنه سبب انفصالهم هو في الحقيقة ما كان يجذبهم لبعض في الأصل، وبالأخص الصفة الملازمة للبطلة كلمنتاين والتي تعيد تكرار وصفها خلال الفيلم عدة مرات على أنها أسوأ طباعها وهي كونها (impulsive) أي أنها مندفعة أو متهورة، لكنَّ رحلة محو الذاكرة بينت لجول أنها كانت تلقائيَّة فقط محتفظة ببراءة لم يستطع هو تفهمها رغم أنها كانت سبب انجذابه لها في البداية بسبب اقتحامها لحياته في حفلة عشاء عائليَّة على ساحل مونتوك. 
تعرف الذاكرة على أنها عملية الاكتساب، الخزن، الاحتفاظ وإمكانية استرداد المعلومات والخبرات التي نمرُّ بها خلال حياتنا؛ أي أنَّ الذاكرة عمليَّة تراكميَّة تمرُّ خلالها المعلومات بعمليات تغطية قد توهمنا بمحو المعلومات لكنْ لحظة استردادها تكون صادمة لأنها تكشف عن قدرة هائلة لعقل الإنسان على خزن وإخفاء تلك المعلومات بعيداً عن العقل الواعي الحاضر، وعمليَّة الاسترداد هذه تعيد المواقف من دون المشاعر الآنيَّة التي رافقتها فتخلق أجواءً مناسبة لرؤية جديدة وأحكام جديدة ربما تكون النقيض التام للحكم الأول.
 
محاكمة للذات
يُجري جول محاكمة كاملة لذاته ولعلاقته بكلمنتاين خلال عملية المحو التي تجريها شركة متخصصة تحتفظ بسرية معلومات زبائنها بعد عملية تسجيل انفعلات العميل أثناء محاولته تذكر المشاعر المرافقة لرؤية الأشياء المشتركة في العلاقة مع الآخر. لكنَّ هذه العملية ليست بريئة تماماً وموظفي الشركة لا يراعي بعضهم حقاً تلك الخصوصيَّة فيقوم أحد المساعدين بسرقة ملفات جول محاولاً إغواء كلمنتاين التي خضعت للعملية ذاتها، لكنْ كلما زيف باتريك «المساعد السارق» أحد مواقف جول أمام كلمنتاين يزداد نفورها منه في مشاهد يوضح فيها المخرج وكاتب القصة قدرة الإنسان على الإحساس بتلقي الحقيقة والزيف في الحياة الطبيعيَّة فكل ما هو حقيقة ومباشر يصل الى إحساس الإنسان ويشكل نافذة عبر ملفات الذاكرة تخضع لاحقاً لكل إجراءات عملية التخزين والاسترداد اللازمة.
أما ما هو مزيفٌ ومصطنعٌ فيترك عند الفرد شعوراً بعدم الأمان وعمقاً في النفور الروحي والنفسي من الآخر رغم محاولات التظاهر بغير ذلك كما تفعل كلمنتاين التي تستسلم في النهاية الى صدق مشاعرها بالابتعاد عن باتريك رغم أنه كان يستعمل ويعيد كل كلمات جول من دون أنْ يفلحَ في كسب ودها.
يتحدث الشاعر الويلزي ديلان توماس عن موضوع الذاكرة في قصيدته «حقل فيرن» [Fern Hill] حين يتذكر حقول اللعب في الطفولة واصفاً الذاكرة على أنها ضوء شمس يخترق العقل مشكلاً وعياً قادراً على تمييز الأشياء حولنا بدقة أكبر وعفويَّة أعلى. حيث تمنحنا القدرة على رؤية مختلفة نحو العالم، مشيراً الى لون الحقول الأخضر المختلف في الطفولة عن أي لون آخر والقدرة على التواصل مع الحيوانات وشعور الفرد بقدرته على أنْ يكون جزءاً من الطبيعة، ما يشكل وعياً نقياً وذاكرة لا تخفيها إلا حالة التحول الى النضج وما يرافق هذا من فقدان للتواصل مع الآخر والطبيعة حولنا يسميها توماس حالة من الصحو تغيب فيها المشاعر المرافقة للذاكرة المسجلة وتدفع بها الى أجزاءٍ أعمق من اللاوعي. وهذه فكرة استعارها توماس من الشارع الرومانسي الانكليزي وليم بليك الذي أفرد كتاباً شعرياً مصوراً كاملاً لهذه الفكرة بعنوان (أغاني البراءة والإدراك) [ Songs of Innocence and Songs of Experiences ]، إذ يصور بليك ثنائيَّة الروح والجسد، الطفولة والنضج، البراءة والتجربة، وارتباط الذاكرة بالقدرة على تصور حالة من التواصل بينه وبين الطبيعة يمثل انقطاعها التحول من البراءة إلى التجربة والمقصود بها محو المشاعر المصاحبة لذاكرة الطفولة والتعامل مع الأشخاص أو الأشياء حولنا بطريقة مجردة من دون انفعال ربما.
 
التخلص من ألم الفقد
بالطريقة عينها يصور لنا كوفمان اكتشاف جول لذاته أثناء عمليَّة محو الذاكرة للتخلص من كلمنتاين بعد أنْ وصلت علاقتهما الى مرحلة النضج وتحولت عفويتها إلى اندفاع وبراءتها إلى تهور. بالطريقة ذاتها محت كلمنتاين الذاكرة المرتبطة بجول في محاولة للتخلص من ألم الفقد والقسوة المصاحبة للتذكر. لكن كل المحاولات للمحو فشلت في الفيلم فلا جول كان قادراً على محو كلمنتاين بل انه استعان بها أثناء عملية المحو لتشفير تواصل بينهما يجعل منها جزءاً من ذاكرته التي سبقت لقاءهما في محاولة للوصول إليها مرة أخرى، ولا كلمنتاين كانت قادرة على محو جول ولا تقبل باتريك مزيفاً كلام وأفعال جول رغم عدم وعيها بذلك ولا ماري، الموظفة في شركة محو الذاكرة، استطاعت نسيان مشاعرها تجاه الدكتور ميرزوك، مديرها في الشركة، ما تسبب باكتشافها أنها خضعت للعملية ذاتها فأرادت مساعدة كل من مر بها بإرسال التسجيلات الخاصة بهم ورسائل طلب المحو للعملاء ومنهم جول وكلمنتاين.
 
فاعلية الذاكرة
يبدأ الفيلم من لحظة استرداد الذاكرة في مشهد يصور جول هارباً من العمل يوم الفالانتاين مستقلاً قطار مونتوك حيث التقى كلمنتاين للمرة الأولى في حفل عائلي على الشاطئ رغم برودة الجو. لحظة استرداد الذاكرة هي اللحظة العظيمة لفاعلية الذاكرة وليست لحظة تسجيلها أو حفظها. لحظة الاسترداد تلك تستعيد معها البراءة والعفويَّة المصاحبة للحظة تسجيل الذاكرة تخلق ردة فعل جديدة تسمح بإعادة تقييم المشاعر تجاه التجربة التي نمر بها والأشخاص الذين نتعلق بهم. 
يشير الفيلم أيضا إلى فكرة الحميميَّة وكسر الحواجز الوهمية أصلاً بين الأفراد ويطرح افتراضاً على لسان جول في لقائه الأول بكلمنتاين التي اقتحمت وحدته في تناول وجبة من الرز وقطعة دجاج، قررت كلمنتاين أخذها بعد الطلب مباشرة من دون انتظار رد جول الذي لم يمانع بل استجاب لحركتها بابتسامة قائلاً: إنها تصرفت كأنهما على معرفة مسبقة. يستعيد جول هذه المشاعر وهو يمرُّ ثانية بالموقف فعلاً متقبلاً اقتحامها لخصوصيته على الشاطئ بشعرها الملون الأزرق وبعد محو ذاكرتهما. ما استعاده جول في تلك اللحظة لم يكن ذاكرته عن جول بل استجابته هو تجاه عفويتها وبراءتها التي تسببت في إنهاء علاقتهما المرة الأولى لتصبح سبباً لاستردادها في المرة الثانية.
 
توظيف الجسد
مع ميل فكرة الفيلم وجنوحها إلى الفلسفيَّة والخيال العلمي والمشاهد المكررة ظهر الفيلم نسخة مكررة من أفلام أخرى، وهو ما حرص المخرج كاتب القصة على تجنبه بالكلية مع كاتب السيناريو والحوار «تشارلي كوفمان»، عبر ما يمكن تسميته بالفيلم السينمائي الدوار أو الذي تقدم نهايته تفسيراً يغاير في جزءٍ منه أحداث الفيلم، فضلاً عن لمحة الخيال العلمي.
هذا التداخل في العلاقات الحسية الجسدية بين جميع أبطال الفيلم تقريبًا أثمر عملًا حائرًا تختلط فيه الرغبة في المثالية وتناسي العلاقات المؤلمة بالانغماس في اتون وجحيم الجسد، ويأتي اسم الفيلم «إشراقة أبدية للعقل النقي» من تطلع المساعدة ماري سفو إلى التطهر كراهبة واعتزال عالم فوضى العلاقات الشخصية الأميركيَّة والغربيَّة.
جاءت الموسيقى التصويريَّة الخاصة بالفيلم مناسبة دون تميز، وجاء أداء البطل جون كاري متواضعا، وبدت وينسلت أغلب الفيلم كمن تغالب عدم اقتناعها بما تؤديه، بخاصة مع تقدم عمرها عن أداء دور فتاة في أوائل العشرينيات، وأجادت البطلة المساعدة «كيرستن دانست» تجسيد لحظات التيه والندم على علاقتها الحسيَّة مع الطبيب الذي تعالجه.
فيلم «إشراقة أبدية للعقل النقي».. فيلم يختصر العلاقات الشخصية الأميركيَّة والغربيَّة ويظهر مدى تورطها في الابتعاد عن الجانب الروحي المشرق من دفء الأسرة واطمئنانها.