أميركا وحماية مجرمي الحرب النازيين

بانوراما 2021/02/24
...

جاك دويل
ترجمة: بهاء سلمان
بدأت المحاكمات بشكل نموذجي مع لائحة اتهامات، تم توجيهها للمدعى عليه، لائحة عادة ما تتطلب عدة دقائق فقط لتلاوتها بصوت مرتفع؛ لكن يوم الحادي عشر من مايس 1987، تطلّب الامر من أربعين محاميا يوما كاملا لقراءة جرائم كلاوس باربي بصوت مرتفع.
ناهز عدد الشهود المئات، بضمنهم إمرأة كانت آنذاك بعمر 13 سنة عندما عذّبها باربي بوحشية. ودخل الجهاز القضائي الفرنسي في حالة تأهب، مجاهدا لمعالجة ماضيه المليء بالمشكلات والتعاون مع حكومة فيشي. ومع تصدر اسم باربي لعناوين الصحف، تلوى العالم  بسبب سلسلة جديدة من الانعكاسات المؤلمة لرهبة ما حصل في الهولوكست.
خلال تلك الفترة، هيمنت الصور الكاملة لجرائم باربي على الأحاديث والأخبار، إلا ان القليل جدا من الناس طرحوا سؤالا واضحا: كيف تسنى لمجرم حرب نازي كبير بالسن، كان قد لعب دورا حاسما بموت الآلاف من الناس، التملّص من العدالة لعقود؟ الجواب هو: هناك جريمة لم تقرأ داخل المحكمة في ذلك اليوم من شهر مايس. فالحكومة الأميركية أنقذت حياة باربي، ومنحته وظيفة ضمنت بها مضيّه بارتكاب المزيد من الأعمال الوحشية.
 
التعطش للهمجيَّة
كان باربي بعمر 29 سنة حينما وصل الى فرنسا بالقطار خلال الحرب العالمية الثانية. ولكونه من المتفانين في خدمة حزبه النازي لسنوات، لم يكن قد حظي بعد بموقعه الأكبر: رئيس فرقة الجستابو لمدينة ليون، المعروفة بكونها معقل المقاومة الفرنسية. قام باربي بتأسيس عملياته داخل فندق تيرمينوس، ليستهل عهدا من الرعب لا يزال الى الآن يفصل تاريخ ليون بعيدا عن بقية فرنسا المحتلة. كانت مهمته تتلخص بجمع، والتحقيق مع، وترحيل أو قتل أكبر عدد ممكن من أعداء الدولة الألمانية، من اليهود ومقاتلي المقاومة وأفراد آخرين “غير مرغوب بهم”.
مثّل إصرار باربي على اشتراكه شخصيا في أعمال التعذيب أحد أهم أشكال رعبه؛ فحتى داخل جهاز الغستابو، كان العديد من الضباط يتركون مهمة التعذيب بمختلف أشكاله الى المراتب الأدنى، لكن ليس باربي، فرغم أنه لاحقا أشار إلى عبارة تقليدية: “تنفيذ الأوامر حرفيا فقط”، لم يكن هناك ما يفوقه في نوع الشر الذي يحمله. وحاول بعض المتخصصين بكتابة سيرة الأشخاص تفسير قدرات العنف الشخصية الهائلة لباربي، مشيرين الى والده الذي أساء التعامل معه، أو انضمامه في سن مبكرة للحزب النازي كعوامل على ذلك؛ وأجمعوا كلهم على أمر واحد، هو وحشيته المفرطة، كما وصفته ليزا ليسيف، عضوة المقاومة الفرنسية، أثناء شهادتها خلال محاكمته. 
فبعد نجاتها من تحقيق عسير استمر لمدة 19 يوما على يد باربي، رحّلت ليسيف إلى معسكر احتجاز النساء في رافينسبروك. وعندما طلبت للشهادة قالت إن باربي اعتاد على حمل “عصا تبختر”، ينقر بها على حذائه الطويل مع اقترابه من زنزانتها، وهكذا كانت تعلم بوصوله: “الواحد منا كان يساوره شعور بقدوم وحش كاسر الى الزنزانة.. كان رعبا مطلقا”. 
 
بشاعة المحتل
كشفت محاكمة باربي عن طرق التعذيب، لأدوات لم يسمع بها من قبل، واستخدام الكلاب، والاغتصاب، والصدمات الكهربائية، مورست ضد السجناء، بضمنهم النساء والأطفال. وأشرف الضابط النازي على التحقيق مع زعيم المقاومة الفرنسية جان مولين، الذي ما زال الفرنسيون يستذكرونه كشهيد. تحمّل مولين إطباق الأبواب على يديه، وإدخال إبر حارة تحت أظافره وجلده، كلها من دون أن ينطق بحرف واحد لغاية وفاته سنة 1943. وزعم باربي أن مولين انتحر، لكن هناك اعتقادا كبيرا بضرب رجال الجستابو له حتى الموت.
بعد الحرب، جاهدت الحكومة الفرنسية لإعادة تأسيس نفسها، واختفى الكثير من مجرمي الحرب، من أمثال باربي، وسط هذا الخضم. لكن، ورغم ما تمخضت عنه محاكمات نورمبيرغ، لم تنته الكثير من دول الحلفاء السابقين من التعامل مع النازيين.
فقد جنّد فيلق الاستخبارات التابع للجيش الأميركي باربي لموقع استخباراتي جديد تمثل بالتجسس على الحكومة الفرنسية الجديدة، التي كانوا يعتقدون باختراق الشيوعيين لها، وعندما إنكشف غطاء باربي، رتب الأميركان لتهريبه خارج البلاد للإنضمام إلى النازيين السابقين المختبئين في قارة أميركا
الجنوبية.
لم يؤسس باربي لحياة هادئة، فقد بقي متنقلا بين قارتين، مساهما في رفع أداء القوات المسلحة البوليفية، أثناء عمله لصالح مخابرات ألمانيا الغربية تحت اسم مستعار. وربما كان لعلاقته الوثيقة بالأميركان دور محوري في القبض على تشي جيفارا سنة 1967، والإنقلاب العسكري لبوليفيا سنة 1980. 
ومع إن الجهود المتواصلة لملاحقي النازيين أدت في نهاية المطاف إلى تسلميه للفرنسيين سنة 1983، فقد تم التكتم على الصورة الكاملة لمساره الوظيفي.
 
اعتذار سخيف!
عندما وقف أخيرا أمام المحكمة، اعتذرت الحكومة الأميركية لفرنسا عن حمايتها له، لكنها إدّعت، ولا تزال، عدم معرفتها لماضي باربي النازي، وأنها لم تتعامل معه مطلقا بعد مساعدته على الهروب الى أميركا الجنوبية، بحسب جيرالد شتاينآخر، أستاذ التاريخ في جامعة نبراسكا، ومؤلف كتاب “النازيون الهاربون: كيف أفلت أتباع هتلر المخلصون من العدالة”.
يقول شتاينآخر: “لقد أثبتت بحوث أجريت خلال السنوات الأخيرة كذب كلا الإدعائين، حيث تعلم أجهزة الاستخبارات الأميركية الكثير من ماضي باربي وعمله مع الغستابو، مع وجود اتصال بين المخابرات المركزية الأميركية مع النازي المطلوب داخل أميركا الجنوبية.
الأسوأ من هذا هو ورود باربي ضمن قوائم الرواتب المدفوعة نهاية سنة 1966 لعملاء مخابرات ألمانيا الغربية المدعومة أميركيا”.
ويبقى إرث باربي غير واضح المعالم بشكل محبط، فقد اختار عدم حضور الكثير من جلسات محاكمته، ليحرم ضحاياه من فرصة التعرّف على ما آلت اليه أعماله البشعة. وبعد أربع سنوات من تأجيلات محاميه، الذي رأى على نحو مثير للجدل أن جرائم باربي لم تكن أسوأ من حقبة الاستعمار الفرنسي، تغيّر قرار الإعدام الى السجن مدى الحياة؛ ليموت بسبب إصابته بالسرطان. وبخلاف وثائق مكتب التحقيقات الفيدرالي، تواصل الولايات المتحدة عدم الإقرار بدورها في مسيرة “جزار ليون” الوحشية والطويلة.
وبخلاف الكثيرين ممن ارتكبوا الفظائع الجماعية، كشفت محاكمة باربي، التي بثت تلفزيونيا للعالم، عن عمق جرائمه. وبصعوده لمنصة الشهود في المحاكمة، أكد إيلي فيزل؛ مؤلف أعمال المذابح والناجي منها، أنها الأفضل: “ينبغي علينا أن نتحدث، وينبغي علينا قول الحقيقة. جميع من قدم لنطق شهادته سيعمل على منع القتلة من ارتكاب الجرائم مجددا”.
 
مجلة اوزي الأميركية