نهى الصراف
يبدو العنوان أشبه بتقدمة لحكاية رومانسيَّة يكتوي أبطالها بنار الحب ولهيبه في علاقات لا تنتهي أقدارها عادة بنهايات سعيدة، لكنَّ النار في هذه القصة هي نار حقيقيَّة تعبر عن حادثة مأساوية قطع أبطالها خطوات سريعة إلى نهاياتهم المأساويَّة حرقاً، بعد أنْ التهمت النيران المبنى المعروف باسم «بازار دي لا شاريتيه» أو البازار الخيري الذي كان يضم مؤسسة خيريَّة اندلع فيها حريق بالمصادفة وأذاب أجساد أكثر من 120 إنساناً أغلبهم سيدات باريسيات من الطبقة الارستقراطية وحاشيتهن، كن يحضرن الحفل الخيري للبازار العام 1897.
في حينها، اتفق المجتمع الباريسي على أنَّ الحريق كان مجرد حادث وأنَّ عدد القتلى والجرحى، كان كبيراً بسبب تدافع الناس جراء الفزع وعدم وجود منافد كافية للخروج، لكنَّ التكهنات اختلفت بعد أنْ تحول الحادث مؤخراً إلى عملٍ دراميٍ، إذ إنَّ الحبكة التي امتدت على قماشة زمنيَّة أمدها ثماني حلقات متسلسلة بواقع ساعة للحلقة الواحدة، تطلبت أنْ تدور الشبهة حول احتمالات أخرى تسببت في المأساة ومنها أنْ يكون الحريق مدبراً بفعل مخربين ناقمين على أذرع الحكومة والمتنفذين من الأثرياء. هكذا، كانت تلاحق الأحداث اللغز الأهم وهو؛ ما هو السبب الحقيقي لاندلاع الحريق؟
بداية، تم عرض العمل «نيران القدر- ذي بون فاير أوف ديستني»، الترجمة الإنكليزية لبازار دي لا شاريتيه ، على القناة الفرنسية (تي. أف. 1)، ثم عرضته منصة نيتفليكس أواخر العام 2019 وكان إنتاجاً مشتركاً للجانبين.
مرَّتْ على أحداث القصة أكثر من مئة عام، مع ذلك فإنَّ البحث عن مصائر من عاصروها والتصدي لآثارها الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي انعكست على المجتمع الباريسي في ذلك التاريخ ، يؤكد أنَّ حركة التاريخ لا تسير على نحوٍ متشابهٍ وقد تتغير على أهون سبب، فضلاً عن ذلك، فإنَّ الحادثة أثمرت علامة مهمَّة في التاريخ المبكر لطب الأسنان الشرعي؛ حيث كانت الحالة التي انتهت إليها بقايا الضحايا المتفحمة استوجب معها الركون لسجلات طب الأسنان لتحديد هوياتهم.رغم أنَّ الحكاية استخدمت الواقع مجرد خلفية لخيال المؤلف الذي أعمل فيه من الأحداث والشخصيات الطارئة ليضعها في سياق تاريخي معين، فهو أبعد كثيراً من مجرد تداعيات أولية لحادث قد يتكرر في أي مكان أو زمان. مع ذلك، فإنَّ السيناريو اشتق بعض التفاصيل من الخلفية الحقيقيَّة للأحداث مثل وجود زوجة أحد أعضاء مجلس النواب كزائرة للمعرض، فضلاً عن مطابقة بعض الأسس التي تم من خلالها التعرف إلى أصحاب الجثث المتفحمة – خاصة السيدات- من خلال مجوهراتهن، مع توظيف هذه الحقيقة بالذات في تغيير السياق الدرامي لمصير إحدى بطلات الحكاية التي تنتحل شخصية سيدة ثرية ماتت في الحريق، وبمساعدة والدة الفتاة المتوفاة، من خلال تبديل ما كانتا ترتديانه من مجوهرات.
تتناول القصة حياة ثلاث نساء تغيرت مصائرهن بسبب الحريق المميت، كتبت لهن النجاة لكنْ بآثار جسديَّة ونفسيَّة ليست بالهينة، حدث هذا قبل أكثر من 120 عاماً حيث الحب المحظور، أفكار التحرر التي لما تزل طرية، الصحافة المقيدة والبون الشاسع بين عامة الناس وطبقة الارستقراطيين والسياسيين المترفة، تفاصيل صغيرة تحمل لنا عبّر الزمن نفحة من مناخ باريس السياسي والاجتماعي الذي كان يتأرجح على حاشية نهاية القرن التاسع عشر.
ألهم الحدث العديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، منها الفيلم الفرنسي (البازار القرمزي) 1947، للمخرج بول ميسنيير.
بعد أكثر من قرن وبسبب «نيران القدر»، ها هي القصة الفرنسيَّة تنفض عنها رماد الزمن مرة أخرى وما زال هناك من يشعر بالأسف على أرواح ضحاياها، لكن كم من الحرائق الزمنية القريبة التي مرّت على أوطاننا ولم تترك سوى خيال من ضحاياها على جدران قلوب أحبائهم، خيال تحول من جمر متقد إلى مجرد دخان في ذاكرة شعبية مغمى عليها أو مغيبة. ملجأ العامرية، مأساة أتت على أكثر من 400 روح بشريَّة بريئة في منطقة عامرة في بغداد ودارت عليها ثلاثة عقود زمنيَّة منذ أسبوع، لم يتبق منها سوى لوعة وحزن لا يشفيه الزمن في قلوب من تبقى من أقارب الضحايا.. من يتذكر العامرية الآن؟ ولماذا تجاهلتها أقلام الكتّاب وكاميرات السينما ومنصات العرض؟
هذا حريقٌ آخر مات أبطاله وستطويهم ذاكرة الزمن بالتأكيد، لكنْ هناك سؤال متجدد لا يموت؛ ما الذي تسبب في اندلاع الشرارة الأولى وأي نار ابتلعت أقدار الضحايا؟