زيارة البابا للعراق تاريخيَّة وتأكيدٌ على الأخوّة الإنسانيَّة

منصة 2021/03/04
...

بيروت: أمين ناصر
يترقب العالم وصول سيّد دولة الفاتيكان قداسة البابا فرنسيس إلى العراق يوم غد الجمعة في أول زيارة بابويَّة على الإطلاق إلى بلاد ما بين النهرين، التي تهدف إلى تشجيع المسيحيين على الصمود رغم تراجع أعدادهم، وتعزيز التواصل مع المسلمين، إذ ستكون أبرز محطات زيارة البابا لقاء يجمعه مع المرجع الشيعي الأعلى آية الله العظمى السيّد علي السيستاني في النجف الأشرف، في وقتٍ يعاني فيه العراقيون من عدة أزمات إحداها الأزمة الصحيَّة، ودخول البلد في الموجة الثانية من الإصابات بفيروس "كورونا". 
تعزيز العلاقة
بارَك العديد من رجال الدين حول العالم هذه الزيارة التاريخيّة التي تعزّز الحوار والتلاقي بين المسلمين والمسيحيين، ومنهم المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية في لبنان، بحيث أكّد سماحة العلّامة السيّد علي فضل الله في حديثٍ خاص لـ "الصباح" أنَّ "لهذه الزيارة التاريخيّة بين أعلى مرجعيتين على المستوى الإسلامي والمسيحي أهميّة كبيرة في المساهمة في تعزيز علاقة المسلمين بالمسيحيين في الداخل العراقي وفي العالم أجمع، وأنها ستكون بمثابة ردّ على كلّ من يقول إنَّ هناك عملاً على إخراج المسيحيين من الشرق".
مضيفاً: "نحن بحاجة إلى تعزيز هذه العلاقة وإلى مزيدٍ من التعاون على مستوى القيادات المسيحيّة والمُسلمة لمواجهة الكثير من القضايا التي تهمّ العالم، وبشكلٍ خاصّ لمواجهة الظلم العالمي نتيجة الحروب والتوترات. هذا أمرٌ لا بُدّ من العمل عليه لمواجهة كل قوى الاستكبار العالمي التي ترغب بنهب ثروات الشعوب ومقدّراتها، وهذه مسؤولية جميع المسؤولين في الشأن الإسلامي والمسيحي، كذلك لا بدّ من العمل على تعزيز القيم والأخلاق، في ظلّ انعدام هذه القيم الذي بتنا نشهدها في كلّ ساحات العالم، واستبدال لغة الأخلاق بلغة المصالح والمنافع".
وقال السيّد فضل الله إنَّ هذه القيم سوف تُعزّز من خلال زيارة البابا، "كُنّا نأمل لو حصلت الزيارة سابقًا، ولكنْ الحمد لله حصلت الآن، وإنْ شاء الله سوف نتنج عن هذه الزيارة مرحلة جديدة فيها الكثير من المعاني السامية على مستوى العلاقات المسيحية الإسلامية".
 
الانفتاح الإسلامي المسيحي
وردًا على سؤال "الصباح" حول زيارة النجف الأشرف بالتحديد، أجاب السيّد بأنَّ ذهاب البابا للنجف له معنى كبير، فالنجف هي مركز للمرجعية الدينية ومكان له قداسته وفيه مقام الإمام علي (ع)، وكلّ ما يمثّل الإمام من وحدة وانفتاح، وكُلّ القيم التي لم يتحدث عنها المسلمون فقط، بل تحدث عنها المسيحيون، نثرًا وشعرًا. كذلك فإنَّ النجف تمثّل قيمة أساسية من خلالها انطلقت الكثير من دعاوى الانفتاح الإسلامي المسيحي، لذلك لها أهمية كبيرة واللّقاء هناك سوف يعزّز هذه الأهميّة ويؤكّد عليها. 
كل ما قاله السيّد فضل الله أثنى عليه سماحة الشيخ هشام خليفة، المدير العام للأوقاف الإسلامية في دار الفتوى سابقًا وخطيب مسجد ومقام الإمام عبد الرحمن الأوزاعي رضي الله عنه في بيروت، بحيث صرّح لـ "الصباح" بأنَّ زيارة قداسة البابا المرجع الأكبر للمسيحيين في العالم إلى العراق هي بلا شكّ زيارة تاريخيَّة ولها أبعادٌ ثلاثة: البُعد الأوّل سياسي، بمعنى أنَّ العراق له دور إقليمي وعالمي كبير وهذه الزيارة تؤكّد هذا الواقع، وبالتالي إعادة تنشيط هذا الدور ومكانة العراق في المنطقة.
البُعد الثاني هو التقارب الإسلامي المسيحي، لا سيما أنَّ قداسة البابا سيتوجّه إلى النجف الأشرف، فهذا التلاقي بين المرجعية الشرعية في النجف ورأس الكنيسة الديني، يُدلّل على حقائق ثابتة تزعزعت في الفترة الأخيرة، وهي أنَّ التلاقي ضروري بين الحضارات والرسالات السماويّة، كما يؤكّد بأنَّ التطرّف والإرهاب ليس أصلاً لا في الإسلام ولا في المسيحيّة. البُعد الثالث هو بُعد عربي، فالعراق دولة عربية كانت مؤثِّرة في العالم العربي، واليوم تستعيد هذا الدور. وبالتالي، فإنّ المسيحيين في العالم العربي لهم مكانة في الدول العربية وخاصّة في العراق الذي احتضنهم لأجيال، فهذه الزيارة تصبّ في هذا الإطار وتُعيد للعراق دوره التاريخي والحضاري".
 
ثمار للشعب العراقي
ومن رجال الدين المسيحيين في لبنان، "الصباح" التقت المطران ميشال قصارجي، راعي الكنيسة الكلدانية في لبنان، الذي أبدى حماسه لهذه الزيارة الاستثنائيَّة على حدّ تعبيره "نتأمّل أنْ تحمل الزيارة ثماراً للشعب العراقي كلّه، الذي عانى الكثير من الصعوبات، من حروب واضطهاد وتهجير، وهذه الزيارة ستكون بمثابة زيارة أب إلى أبنائه وسيكون له استقبال رسميّ في المطار وفي عدّة كنائس في بغداد سواء السِريان أو الكِلدان، واللّقاء الكبير سيكون في قدّاس يوم الأحد في أربيل. زيارة البابا عادة تحمل أملاً ورجاءً ورسالة، ورسالتنا نحن كمسيحيين هي وجودنا إلى جانب كل الأطراف في العراق، وصِلة وصل واتحاد وتفاهم وحوار".
كما أثنى المطران قصارجي على زيارة البابا إلى مدينة "أور"، موطئ سيّدنا أبراهيم، وموطئ كل الديانات، وختَم بالقول: "نتمنّى لأهلنا في العراق أنْ يكون هذا اللقاء لقاء أخوّة وأنْ يعطي ثماراً صالحة".
وفي سياقٍ مُتصِل، أعرب المطران بولس روحانا، النائب البطريركي العام على نيابة صربا المارونيّة عن فرحه وأمله في هذه الزيارة: "تلقّينا خبر زيارة البابا للعراق بكثيرٍ من الفرح، الشعب العراقي بكل مكوناته من مسلمين ومسيحيين، وكل الطوائف بمختلف تسمياتهم كانوا منتظرين هذه الزيارة، ونحن معهم، لأنَّ زيارة البابا رغم أنّها للمسيحيين بالدرجة الأولى كونه راعي الكنسية الكاثوليكية، إنّما البابا يحمل رسالة إنجيليّة شاملة، ولهذا السبب وقّع في 4 شباط عام 2019 مع الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، في أبو ظبي "وثيقة الأخوّة الإنسانية" لأنَّ كل دين لا يفكّر بالبُعد الإنساني الشامل يكون ديناً منقوصاً. والآن، من خلال زيارة العراق ولقائه السيّد السيستاني، والقادة المسيحيين في العراق، يركّز على مسألة الأخوّة، لأنَّه من دون الأخوّة لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمِنًا بالله الخالق، وهو يحجب عطفه عن المؤمنين الآخرين الذي يختلف معهم في الدين". وبالتالي، فإنّ زيارة قداسة البابا للعراق هي فرح ليس فقط للعراق إنّما لكلً العالم العربي.
 
رسول السلام
راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون كانت له رؤية متقاربة جدًا أيضًا، قائلًا لـ "الصباح": " بدون شكّ هذه الزيارة هي زيارة تاريخيّة، أولاً على المستوى الإنساني، فالبابا هو رسول السلام، يحمل إلى العراق السلام الذي يتحقّق عندما يلتقي الإنسان مع أخيه الإنسان، وبمجرّد أنْ يكون قداسة البابا مع المرجعيات السياسية والدينية في العراق، فهو يؤكّد على العيش المشترك، ويعطي جُرعة أمل للمسيحيين بعد كل ما تعرّضوا له في السنوات الأخيرة، والذي أدّى إلى هجرة الكثير منهم. نتمنّى أن يكون للمسيحيين دورهم وحضورهم الذي يُعتبر قيمة مُضافة، لأنَّ القيم التي يحملونها هي قيم أخوّة مع المسلمين".
وأضاف المطران: "سمِعنا أنّ البابا يمكن أن يُمضي وثيقة أخوّة إنسانية مع السيّد السيستاني كما فعل مع الشيخ الأزهر في أبو ظبي، لأنَّ هذا يرسّخ وجود المسيحيين في العراق ويبيّن أهميّة قبول الآخر، وكما علِمنا أنه سيكون هناك لقاءٌ للأديان، وهو لقاءٌ مهمٌ جداً لأنه يبيّن قيمة الدين كفرصة للتلاقي وعَيش المحبّة". 
 
زيارة الضرورة الدينية
من جانبه رحّب المفتي الجعفري الممتاز في لبنان الشيخ أحمد قبلان، بزيارة البابا فرنسيس التاريخية للعراق، ولقائه المرجع الأعلى السيد علي السيستاني والسلطات السياسية والدينية، مؤكدا لـ"الصباح" أنها "زيارة الضرورة الدينية والأخوة الإنسانية الماسَّة لدفع الشراكة الدينية وتعزيز القيم الإنسانية ومرجعيتها، التي يفترض بها التأسيس لجسر قيم ومبادئ يشكل قوة ضغط ضامنة بين الشرق والغرب، لتعزيز الشراكة والمحبة والرحمة المفروض أنْ تكون قاعدة التلاقي المثمر بين الإسلام والمسيحية، بل بين كل أديان وملل العالم".
آملاً أنْ تكونَ الزيارة "جزءاً من نهضة العراق ودعم جهود عمرانه وتعزيز شراكته وقيامه من بين ركام سياسات العالم الظالمة".
وأضاف: "حفظ الإنسان والأوطان ضرورة مقدسة في عالم الأديان، ومعارضة الظلم والفساد والاضطهاد والعدوان والانحراف ضرورة دين ودنيا، لأنَّ الدين صوت الحق، ولا محل للباطل فيه بأشكاله كافة، ولأنَّ الله هو الذي يصنع الحقيقة وليس أباطرة الظلم والحروب والاحتلال والفساد".
وتابع: "كلما تلاقت الأديان كلما تعززت قيمة الإنسان، وكلما تمكنت الشعوب من رحمة الله ومحبته كلما زالت البغضاء والفرقة وانتفى الشر، وكلما تجذرت العلاقة بين الشرق والغرب بعيداً عن الانتهازية والظلم والفساد والعدوان وعقلية القوة والحروب الاستنزافية بأشكالها كافة، كلما تأكد الحق وأمنت الشعوب، وهو غاية الأنبياء وأكبر مقاصد الرب بخلقه. وهو ما نأمل انعكاسه بقوة على لبنان الشراكة والعيش المشترك والمبادئ الجامعة التي تشكل روح هذا البلد وعرين رسالة هذا الوطن المستنزف من الذئاب الدولية الضارية، لأنَّ زيت الفتن وحرائق المنطقة وصخب الظلم والحصار والاحتلال والعدوان، لا يدفعه إلا عمل القامات الكبرى الدؤوب لمنع شياطين الإنسان من لعبة الاستغلال والاحتلال والاحتكار والحصار والاستثمار بعداوة الشعوب وخراب
الأوطان".