كان جبار الغزي يعيش في حالة حدادٍ دائمة, والحزن جزءٌ أساسيٌّ من شخصيته الانطوائيَّة, فهو يحيا على حافة الوجود, ولم يبق له في الحياة سوى هذا العرس العدمي المتواصل (خلصت عمري حداد/ ما نزع جسمي أبد ثوب الحداد/ والحزن بالروح يمتد من زغر بيه امتداد/ والعمر ضاع العمر بين الهجر والابتعاد/ بين آلاف الأماكن/ بين غربة امسودنه وحراس وخيام ومساكن/ حيرتي بدنياي حيرة/ لانه فوك الكاع مثل الناس ساكن/ لانه مبحر باللهيب الحار مثل السندباد).
من الأسباب الكثيرة لهذا العزاء, أولاً لفشله في الحب, وعدم زواجه من الفتاة التي يحبها: (أعترف بالشوك فاشل/ وانه عندي ويه الحبيبه شكد مشاكل/ فوك من ذاك الشعر بالايد شاتل/ ورده من أحلى الخمايل/ والعطر لسه العطر منها يفوح/ لكن الورده غدت داي وجروح/ عوفني كالت حبيبي/ انه عد غيرك شفت بختي ونصيبي/ وانته ترغب وين ترغب عني روح).
ثانياً ضياعه في بغداد المدينة المثيرة للإعجاب, ونومه في الحانات والفنادق والشوارع وتحت الجسور: (ضعنه ما بين السطور/ ضعنه والشاعر جسور/ ضعنه بيها من الشغف ومن الغرور/ من كثر بغداد ما جانت جبيره/ والضوايه بكل درب جانت جثيره/ واحنه كل واحد يلف روحه بحصيره/ مره بالحانات نغفه/ مره ما بين الفنادق/ مره فوك من الشوارع/ مره جوه من الجسور).
ثالثاً حنينه المزمن الى مدينته الأم الناصريَّة, وحين يذهب إليها يعود قافلاً من جديد, الى الصالحية حيث الألحان والغناء والمقاهي والأصدقاء والهواء المحمل برائحة النهر الطيبة: (دوم ياخذني العشك للناصريه/ من يحاصرني الألم/ بس أرد ملهوف صوب الصالحيه/ ذيج ام الكاس وام صوت ونغم/ ذيج ام كيف وتناغم/ ذيج ام اعذب نسايم/ والهوه محمل روايح/ جاي من ذاك العشب ذاك النهر/ والكمر بالماي طايح/ مدري هوه الماي صاعد للكمر).
رابعاً عدم وجود من يعتني به, أو يهتم بشؤونه الحياتيَّة الخاصة, فأغلب المقربين تركوه يعاني من الوحدة المدمرة: (من يوديني الهلي بهاي الظهيره/ حتى اشعر من صدك روحي أميره/ حتى أشعر مانه ضايع/ حتى ما أبقى بعد يومين جايع/ حتى بالشدات توكفلي العشيره).
خامساً لا أنيس له سوى الخمور, ما جعله مدمناً لا يستغني عن الشراب, ويحتاج الى المال الذي يفتقده باستمرار: (يا غياب الروح بدروب الهجر اطول غياب/ يا عتاب الروح قاسي ومر أبد لا مو عتاب/ علىكم بشفة غريب تصير كاسات الشراب/ شوك بجفوف الغريب/ وانته جاي تكول ياس/ صم كزاز شكد وكح وشكد مريب/ وانته جاي تكول عاين ذاك كاس/ وانه كلي منين اجيب/ ادفع الايجار وادفع للحبيب/ والعمر من دون فرحه ولا شباب).
سادساً الإحساس بالغربة القاتلة, فهي كالظل تلازمه في كل مكان, حتى صار من المستحيل الفكاك من قيودها, الملتفة على روحه المنهارة: (الصبح غربه وعذاب/ والعصر غربه وخراب/ والعشه غربه ويباب/ غربه حتى الريح ودموع السحاب/ وبتوالي الليل غربه/ كل هوه من الناس هاب/ غربه حتى الماي بشفاف الحزين/ غربه حتى الناي لو طال الونين/ غربه حتى الياس حتى الياسمين/ غربه حتى الكاس لو من دون صحبه/ غربه حتى شموع مشتعله اعلى باب).
سابعاً الشعور بالنهاية القريبة المؤكدة, ولا منقذ ينتشله من هذه الأجواء المعتمة: (المنيه شكد قريبه/ بس شرط عندي من اموت/ كون بين احضان أمي الما شفتها/ كون بجفوف الحبيبة/ كون جنازتي سرب من الطيور/ كون تنعاني القصيده الضيعتها/ كون تابوتي يشدونه بكصيبه).