ستـة أشـقـاء أرعبـوا ترهـونـة الـلـيـبـيَّــة

بانوراما 2021/03/16
...

تيم ويويل
ترجمة: بهاء سلمان
كانوا أسرة جهنمية، فعلى مدى سنوات، حتى الصيف الماضي، أمسك الأشقاء من أسرة "كاني" بلدة ليبية صغيرة بقبضتهم القاتلة، فقد ذبحوا النساء والرجال والأطفال لتثبيت سلطتهم، ويتم حاليا الكشف عن جرائمهم تدريجيا.
وطيلة سبعة أشهر، كان عمال يرتدون بدلات بيض مخصصة للوقاية من المواد الكيمياوية لبلدة ترهونة الزراعية، الواقعة على بعد ساعة بالسيارة جنوب شرقي العاصمة طرابلس، يؤدون عملهم بعناية شديدة، متمكنين من رفع 120 جثة، رغم بقاء مساحات كبيرة لم تستكشف حتى الآن. يقول وضاح الكيش، أحد العمال: "في كل مرة أنبش بها جثة جديدة، أحاول قدر إمكاني التعامل معها بلطف، لأننا نعتقد إذا كسرت عظمة منها، فإن روح الميت ستشعر بها".
وعلى ما يبدو، كانت بعض الجثث تعود لمقاتلين شبان ذهبوا ضحية المعارك، التي دارت حول بلدة ترهونة الصيف الماضي، خلال السنة التاسعة للحرب الأهلية المستمرة في ليبيا؛ لكن الكثير من تلك الجثث تعود لمدنيين، بضمنهم
أطفال بعمر الخامسة ونساء، وبعضها تحمل علامات التعذيب، وتمثل القبور الإرث الشنيع لعهد من الرعب، فرض على المدينة من قبل أسرة الكاني والميليشيا التي أوجدوها، وبقي لمدة قرابة ثماني 
سنوات.
ثلاثة من الأشقاء السبعة المؤلفين لأسرة كاني هم من الأموات الآن، وقد هرب الباقون خلال شهر حزيران 2020 بفضل تدخل قوات تابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة،  لكن العديد من سكان ترهونة يخشون من التحدث علانية عن جرائمهم، حيث يشير البعض الى بقائهم مهددين من قبل مناصري أسرة الكاني.
يبدو أن تجميع قصة الأشقاء عبد الخالق، ومحمد، ومعمّر، وعبد الرحيم، ومحسن، وعلي، وعبد العظيم، ليس بالأمر الهيّن؛ لكن ما يظهر من الحوارات مع الأشخاص الذين يعرفونهم يعد حكاية مفزعة لكيفية استغلال أسرة فقيرة للفوضى، التي عمّت ليبيا بعد ثورة 2011 ضد معمر القذافي، وتسلطوا على بلدتهم بفضل تعاملهم بقسوة مفرطة.
 
رعاع القوم
يقول حمزة دلعاب، المحامي والناشط الاجتماعي، متذكرا لقاءه بالأشقاء أثناء حضور مناسبات اجتماعية قبل سنة 2011: "كان هؤلاء الأشقاء السبعة أناسا فظين، بلا أخلاق، وكانوا مثل قطيع من الضباع عندما يلتقون معا، وكان وضعهم الاجتماعي منحدرا للغاية، ويطلقون الشتائم اثناء أحاديثهم، ويتشاجرون، ويصل بهم الأمر حتى لضرب بعضهم بعضا 
بالعصي".
وعندما اندلعت الثورة، بقيت غالبية سكان ترهونة موالين للقذافي، فقد كان يحابي البلدة، ووضع رجال قبائلها البارزة ضمن أجهزته الأمنية؛ بينما كانت أسرة الكاني من الأقلية التي ساندت الثوار، ليس لأسباب مثالية، وإنما نتيجة لعدائهم الطويل منذ 30 سنة مع أبناء عمومتهم الموالين لنظام الرئيس الليبي، بحسب دلعاب.
وجد ابناء الكاني فرصتهم خلال فترة الهرج التي أعقبت سقوط القذافي، ليقتلوا ببطء وسرية أبناء عمومتهم، واحدا تلو الآخر. بيد أن ذلك أطلق دائرة انتقام أدت الى مقتل علي الكاني سنة 2012. 
يقول جليل حرشاوي، الخبير الليبي المقيم في هولندا، والذي بحث في تاريخ عائلة الكاني: "كان علي شابا وسيما، وعندما مات، جعلوا منه اسطورة، ليقرر أخوته الرد على مقتله، ليس فقط بالعثور على الأفراد المسؤولين وقتلهم، وإنما فعلوا الأكثر من ذلك، وهو إبادة أسرهم بالكامل".
سيطرت أسرة الكاني تدريجيا على البلدة، وأنشات قوة عسكرية تابعة لها تتألف من بضعة آلاف مسلح، ومثل غالبية الميليشيات داخل ليبيا، كان متاحا لها الوصول الى أموال الدولة، ومع استمرار أعمال الانتقام، وظف الأخوة تلك الحالة لبسط سلطتهم المطلقة على ترهونة. يقول دلعاب: "كانت سياستهم تتمثل بإرهاب الناس بلا سبب محدد لمجرّد خلق حالة من الهلع، فقد مارسوا القتل لهذا السبب فقط، وأي شخص واجههم كان مصيره الموت".
 
سلطة مطلقة
خلال تلك السنوات، أسس أبناء الكاني دولتهم الصغيرة داخل وحول ترهونة، وسيطروا حتى على الشرطة النظامية؛ وأداروا إمبراطورية تجارية، فارضين الضرائب على معمل السمنت المجاور ومصالح تجارية أخرى، وبنوا مركز تسوّق كبيرا، وأشرفوا على مشاريع مشروعة، مثل غسيل الملابس، وجنوا فوائد من "حماية" مهربي المخدرات والمهاجرين المارين عبر مناطقهم في الطريق القادم من الصحراء الكبرى صوب سواحل البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه، تبجحوا بمحاربة التهريب وإنشاء منطقة آمنة تطبق القوانين في بلد مزقته 
الحرب.
كان على رأس الدولة المصغرة محمد الكاني، وهو سلفي متطرف، وثاني أكبر الأشقاء، والوحيد بين أفراد الأسرة، الذي تلقى بعض التعليم، وكانت لديه وظيفة ثابتة الأجر قبل 2011، حيث عمل سائقا لدى إحدى شركات النفط، ويرتدي عادة جلبابا سلفيا تقليديا، مع ظهور علامات الزهد والهدوء عليه. يقول جليل حروشي: "جرت العادة داخل عصابات الأسر بكون الشخص الموجود على هرم السلطة ليس مثيرا للهلع، أو حتى صاحب شخصيه جاذبة؛ ففي القمة، تجد عادة من يتمتع بقدرة على استيعاب جميع الأمور المعقدة الضرورية لجعل الهرم يعمل بنجاح، وهذا كان الحال مع محمد".
الأدنى منه كان عبد الرحيم، حليق الرأس، المسؤول عن "الأمن الداخلي"، ويتعامل مع المشتبه بخيانتهم، بينما كان محسن، ذا الوجه الهزيل، بمثابة "وزير الدفاع"، متحملا مسؤولية ميليشيا الكاني، ويشير دلعاب الى أنه وغيره الكثيرين ممن فروا من ترهونة، أبلغوا الحكومات المتعاقبة في طرابلس عن فظائع الكاني، "لكن تلك الحكومات تجاهلت للأسف جميع جرائمهم، لأنها كانت منتفعة من تلك الميليشيا".
 
نقض العهود
بعد ذلك، حصل تغيّر حاسم لمواقف الحرب الأهلية بحلول سنة 2019 حينما تخلّت أسرة الكاني عن ولائها لحكومة الوفاق وتخلت عن عدائها لخصمها اللدود، الجنرال خليفة حفتر، واصطفت معه لاستخدام مناطقهم في شن هجوم على العاصمة. 
وفجأة، صارت ترهونة مسرحا لصراع دولي، فقد تم دعم حفتر بتحالف غريب من فرنسا ومصر والإمارات وروسيا، مرسلا المرتزقة الى معسكر داخل البلدة. 
ومن جهة أخرى، تدفق السلاح من تركيا على حكومة طرابلس؛ ومن المرجح أن طائرة مسيّرة قامت بقتل محسن وشقيقه عبد العظيم في غارة خلال شهر أيلول 2019.
أشعل مقتل الشقيقين واخفاقة الاستيلاء على طرابلس الفترة الأكثر دموية، التي شهدتها ترهونة. يقول حروشي: "تطلب من القتلة تنفيذ المزيد من جرائم القتل، فكيف يتسنى لك ضمان عدم تآمر شعبك مع العدو؟ ومن ثمّ أصيبت أسرة الكاني بحالة من الارتياب الشديد". بيد أن أعمال القتل كان حافزها أيضا إدامة المعركة، إذ كانوا يقتلون من لديه سيارة بيكب دفع رباعي لاستخدامها في القتال، مثلما حصل مع شخص من أسرة جاب الله، اسمه 
طارق.
استولت القوات الحكومية في النهاية على ترهونة بحلول مطلع حزيران 2020، وفر الأخوة الأربعة الباقين من أسرة الكاني وميليشياتهم مع قوات حفتر الى شرقي ليبيا، وهرع أقارب المخطوفين والمختفين الى مراكز الإعتقال سيئة السمعة، التي كانت تديرها ميليشيا الكاني، وبحثوا عن ذويهم، ليكتشفوا حالات بشعة لا تعقل، بضمنها صف من زنازن مربعة المساحة بأبعاد 70 سنتمترا، بالكاد تكفي للجلوس، ووجدوا السجن فارغا.
 
فظائع لا تصدّق
وتوصل دانييل هيلتون إلى اكتشافات مؤلمة، وهو أحد المراسلين الأجانب القلائل الذي دخل الى ترهونة بعد طرد أسرة الكاني منها: "كانت هناك أكوام من الرماد الناتج عن نيران كان السجانون يشعلونها لتحويل الزنازن الى أفران، كنوع من التعذيب،" كما وجدت أحذية أطفال بألوان براقة، يعتقد بأنها تعود لأطفال مفقودين أو متوفين حاليا.
ويقول كمال أبوبكر، المسؤول الحكومي عن أعمال البحث عن المفقودين، بتسجيل أكثر من 350 فردا من ترهونة كمفقودين، بينما يؤكد الأهالي وصول الأعداد الى نحو ألف شخص. حتى الآن، وجدت بعض الجثث داخل مقابر جماعية، مع الشروع بأعمال فحص الحمض النووي، ويشير أبوبكر الى أن المدافن المكتشفة حت الآن تثير صدمة أكبر من أية مقابر اكتشفت منذ بداية النزاع سنة 2011: "هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها جثثا لنساء وأطفال في مقابر جماعية؛ كما وجدنا جثة مدفونة مع جهاز طبي وقناع أوكسجين وأنابيب وريدية، مع رجل حي أخذ من المستشفى ودفن. هذه صدمة كبرى لنا جميعا". 
وتقول حكومة طرابلس إنها تحقق عن المسؤولين عن جرائم القتل، بالرغم من أن حنان صالح، الباحثة الليبية العاملة لدى هيومن رايتس ووتش تقول بعدم ملاحظتها لأي تقرير أنهته حكومة طرابلس، رغم اعلانها عن الكثير من التحقيقات منذ تشكيلها سنة 2015: "ينبغي على السلطات التصرف وفقا للاكتشافات المروّعة للمقابر الجماعية وتتخذ خطوات مناسبة للتعرّف على هوية القتلى، وتقديم المسؤولين عن تلك الأعمال المشينة الى العدالة".
 
نيّات خبيثة
وبتوافق مع ما ذكره دلعاب، تلمح حنان الى أن حكومة طرابلس، المتحالفة لسنوات مع أسرة الكاني، قد "غضت النظر عن بعض من تلك المزاعم الخطرة للغاية، بمعنى أن قيادتها العليا، وليس فقط القادة العسكريين، ولكن المسؤولين السياسيين أيضا، فمن المحتمل تحملّهم لمسؤولية الانتهاكات الخطرة 
إياها".
خلال الفترة نفسها، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا في جرائم ترهونة، ووضعت الولايات المتحدة محمد الكاني على لائحة العقوبات. لكن، وتحت ظل حماية الجنرال حفتر لهم، من غير المرجح أن يواجه محمّد وأشقاؤه الباقون القضاء 
قريبا. 
ففي ترهونة نفسها، هناك دعوات للثأر، ويخشى وضاح الكيش، حفار القبور الشاب، مما يحمله المستقبل: "لقد تحرر سكان ترهونة لتوّهم من سطوة ميليشيا لتتسلط عليهم أخرى، فالحكومة مجرد واجهة، والميليشيات تحكم البلدة، وهي تؤدي ما عليها، وهو إرهاب 
الناس".
لكن مع إعادة دفن جثة رجل وجد داخل مقبرة جماعية، اسمه سعيد مصباح الشوشي، سمع وضاح كلمة ألقاها شقيق الضحية، بدت له كأنها تمثل بصيص أمل لبلدة منكوبة. يقول: "لم يكن شقيقي متبنيا لأية قضية، فقد كان شغله الشاغل العيش لأجل أطفاله فقط، ونحن لا علاقة لنا بهذه الحرب، ومن ثمّ إذا إدعى أي شخص أن الناس ماتوا بسبب قضية ما، يجب إخراجه من ترهونة، لأنه يريد توظيف موت الآخرين لمصلحته الشخصية، نحن نريد إيقاف دائرة الانتقام، لأنها ستمثل كارثة للبلد 
بأسره".
يعلق وضاح: "عندما سمعت ذلك، كنت على وشك البكاء، فقد كان الكلام رائعا بطريقة ما".