لا تولد القصائد إلا من العذاب, ومن الوجع والغربة والكوابيس وأضغاث الأحلام, والشاعر الجيد يفتك بالرتابة والأساليب التقليديَّة القديمة, ومن المستحسن تبديد الكثير من الاشياء غير الضروريَّة, والاهتمام بالمجهول وما يضمر من المفاجآت: (جذع شجره ع العشب نايم وحدره لا على اطرافه تشب انجوم صفره/ والجمال بروحه ياخذ شكل
زهره).
أشعار كامل الركابي تشبه الرسم كثيراً, والشاعر الماهر من يحول فضاء السكوت الى كلام, ويغرس في أرض اللوحات أشجاراً, دائمة التكاثر والخضرة والجمال والسخاء والخصوبة: (الشجره يمكن فززتها/ مدري شبيها جن ما ما زحتني/ عيرتني/ روح احوي تمر بستان/ من نخلة
البصرة).
الكتابة الواعية تكشف عن أسرار غامضة, واللغة الشعرية تفضح شيئاً مستوراً, وتبين لنا ما خفي من الأمور, ولا يزال الشعر يمتلك النفوذ والحضور والأبوة والرهان, وإنَّ جواد الكلمات الأدهم ما غادر الجموح, في ساحات تضج بأشرس المتسابقين: (بالخريف الروح غابه/ وانته لوني بالشته ثلجك غمرني/ وروحي جمره الصيف خلي/ الضيف نايم وسط كمره).
أفكار لا تثني على التشاؤم, وتبارك الحياة بكل ظروفها الغامضة, فالكآبة السوداء تؤثر في الصحة بشكلٍ مباشر, والتفاؤل المدروس يؤدي الى الاستقرار وينمي القوة بداخل الإنسان الضعيف ويزيد من رفض الاستسلام لأصحاب الجاه والجبروت: (المعادله المكتوبه كلش سهله كلش/ والرموز اوضح بعد من ماي دجلة/ البصرة لوما هالنفط جا صارت احله).
كتابات منوعة تحتفي بالمدن والعشق والثياب والمرايا والشهداء, ولا تركن الى لونٍ شعريٍ واحد, وديدنها الدائم الانشغال بكل جديد وبكل موضة تصدر في عالم الادب العريق: (آنه من سومر من هوى الزقوره/ وانته تل اسمر شاهكات اطيوره/ كل طير يزهي بجنحه من
يتبختر).
كامل الركابي يسافر بين ثنايا الصور في زورق محكم, فيلتقط النافع والمؤثر والمفيد, ويترك القديم المعاد في اكثر من قصيدة, ولا يبالي بمن يخشى من الحنجرة المغايرة للقواعد, فالصوت الذي لا يتماشى مع الجوقة, يبقى ويمضي الى الهباء الصدى: (شاعر من البصره ناشر بالجريده/ احلى كلمه الماي جانت عندي/ من اكتب قصيده).
الركابي يرجنا في ما يكتب ويحرضنا ضد انفسنا الساكنة, ويجند طاقاتنا الداخلية بالضد من العدائية والدم والهزيمة والغضب, ويدعونا الى التناغم والانسجام والتواصل والتعايش والاتفاق, والسماح للآخر بإبداء وجهة نظره الخاصة بمجمل الأمور, والانتباه لكل رأي مشاكس لا يمثل سوى نفسه: (كالتلي بت الهور/ محد يعرف الماي بالفيض يكتل/ من يشح يكتل/ كالتلي بت البصرة مقهوره/ لا ماي عدنه ويشح/ والفيض كله ملح/ والكهربه ما بعد عدها خلك
تنتل).
فضيلة المبدع فتح الابواب لمخيلته المجنونة بانتقاء الصور الجديدة واختراع الكلمات المناسبة لها ورفض الانسياق التام وراء الوزن والقافية والابتعاد عن الاسلوب الجاهز والمعنى الملائم لكل الاذواق:”النهر جرفين بس نهرك متاهه/ من كثر ما بي جروف/ العمر لونين لون البيت الاول اخضر/ ونخله على بابة/ ولون لون الغربة اصفر من عذابة/ تبتعد بيك المسافة وتحلم بعهد الصبابة/ ترتع بروحك غزال وانته
غابة).