الخيال السياسيّ لصموئيل بيكيت

منصة 2021/03/30
...

إميليا مورين
ترجمة: جمال جمعة
أضحت أعمال بيكيت تغدو موضوعاً محلّياً على نحو متزايد. فعلى مدار الأشهر الستة الماضية، برزت فجأة مقارنات بين مفاوضات انسحاب الحكومة البريطانية من الاتحاد الأوروبي مع مسرحية (نهاية اللعبة) باطراد في الصحافة، وعرضت (في انتظار غودو) في مسرح على الحدود الأيرلندية بين مقاطعتي كافان وفيرماناغ.
قبل ذلك، كانت مسرحيات بيكيت المعيارية حول الركود، والتقاعس، والدوران في حلقة مفرغة تُستحضر بانتظام في تقارير الحرب الأهلية السورية والمقالات التي تصف المحنة اللانهائية للاجئين السوريين. وقبل ذلك، فإن فكرة أن “هذه” ـ أيّة أزمة دولية أو حلقة صعبة في السياسة الأوروبية أو الأمريكية ـ “تشبه في انتظار غودو” وفّرت للعديد من الصحفيين بعض الفكاهة الخاطفة ضمن الملاحظة. الجميع ينتظر، لا يحدث شيء، ولا أحد يعرف ماذا يفعل: من غير بيكيت يمكنه مساعدتنا في التفكير في ذلك؟
المفارقة الكبرى هي أنه يبدو، ظاهرياً، أن هناك القليل من أعمال بيكيت التي قد تمكننا من التفكير في السياسة. نصوصه تتعامل مع الريب، والتشرّد، والتسويف ــ أفكار لا تتوافق بسهولة مع أنماط الكتابة الأخرى التي تعرّف نفسها علانية على أنها سياسية. لطالما كان يُنظر إليه على أنه شخص يمتلك طريقة تفكير تجريدية للغاية وكان معنياً فقط بالمشاكل الفلسفية البحتة بدلاً من مشاكل العالم الذي عاش فيه. 
ومع ذلك، فهو بالنسبة للكثيرين من معارفه يصدف أن يكون مختلفاً بعض الشيء: شخص لديه فهم غريزي وعميق للألم والمعاناة، وشخص يعرف أن أوقات التوتر السياسي الحقيقي تلقي أيضاً الضوء على العديد من الحقائق التي كانت بدونها 
مخفية. 
لقد كان مهتمًا بعمق بتلك اللحظات التي يبدو فيها أن مسار التاريخ المحدد قد انقلب رأساً على عقب، وشاهداً على العديد من مثل هذه اللحظات على امتداد 
حياته.
بالنسبة للبعض، المواقف المستعرضة في أعماله ــ في مسرحياته على وجه الخصوص ــ يمكن أن تبدو منفصلة عن أي واقع يمكن التعرف عليه. لكن بالنسبة لآخرين فإن حالات العذاب، والحرمان، والقهر التي تصورها أعمال بيكيت مألوفة بحميمية، كما أن رؤاها عن أهمية الذاكرة، والشجاعة، والتضامن لا مثيل لها. عندما تقترب حافة الحرب والصراع، تصير كتابات بيكيت حقيقية وعميقة بشكل غريب. 
لقد رأي الكثيرون في جميع أنحاء العالم، ولا يزالون يرون، أصداءً سياسية عميقة وآنية في مجموعة أعمال تدور عن الأنقاض والرماد والوحل والحجارة، عن الانتظار والمعاناة، وعن الإرهاب والدمار، والاعتقال، والنفي القسري.
المعرفة السياسية التي تحملها أعماله هي معرفة سياسية اكتسبها بيكيت بالطريقة الشاقة، عبر التجربة والملاحظة. الحروب والاضطرابات السياسية العاصفة التي جعلت أوروبا الحديثة تشكّل رؤيته للعالم، وكانت لديه معرفة موسعة بشكل غير اعتادي لما تفعله الحرب بالأوطان 
والشعوب.
الثيمات الرئيسية في كتاباته ــ العنف، الاستغلال، الحرمان ــ عميقة من الناحية السياسية، رغم أن الكتابة ذاتها لا تتوافق مع ما هو متوقع عادة من الأدب المسيّس علانية. لا يمكننا أن نتوقع العثور على تمثيلات يمكن التعرّف عليها مباشرة، لا تقبل الالتباس لأحداث حقيقية عند بيكيت. ما نحصل عليه هو استغاثات، طبقات، اقتراحات، أصداء، شيفرات ثقافية، تلميحات منفردة. 
يتضح من الطريقة التي كتب بها أنه كان يلتمس الإلهام من العالم الذي يعرفه، وأن التوترات والمآسي السياسية التي شهدها كانت غالبًا هي التي ألهمته للكتابة في المقام الأول؛ ومع ذلك، في الوقت نفسه، فقد كتب كل هذا بحيوية، وتجنّب وصف أحداث معينة بشكل مباشر.
كانت تجربته في التاريخ السياسي واسعة بشكل غير عادي ومباشرة بشكل غير عادي. لقد شهد تأثير الحرب الأهلية الأيرلندية وحرب الاستقلال الأيرلندية في طفولته وشبابه المبكر، واكتسب التعرّف المباشر على بلاغة الخطاب الحربيّ لألمانيا النازية في مرحلة البلوغ. خلال الحرب العالمية الثانية، خبر الاحتلال النازي في فرنسا زمن الحرب وأسهم في المجهود الحربي وفي عمل شبكات المقاومة، مترجماً المعلومات العسكرية لخلية مقاومة فرنسية تحت قيادة منظمة تنفيذ العمليات الخاصة البريطانية (SOE). كان ثمة مواطنون إيرلنديون آخرون يعملون لصالح خلايا المقاومة الفرنسية، لكنه كان الكاتب الأيرلندي الوحيد الذي قاتل بهذا الشكل المباشر في حركة مقاومة معادية للنازية. خلية المقاومة أبيدت إثر 
وشاية. 
هرب بيكيت، لكن أعضاء آخرين في المجموعة ــ أكثر من مائة منهم ــ إلقي القبض عليهم وأُطلق عليهم الرصاص أو رُحِّلوا إلى المعسكرات النازية. بقي بيكيت مسكونًا بما حدث من حوله. ومع ذلك، لم يتبجّح أبدًا بما أنجزه. عندما سُئل عن سبب انضمامه إلى المقاومة الفرنسية، قال ببساطة إنه “لا يستطيع الوقوف جانباً مكتوف الأيدي”. لبقية حياته اتّبع ذات المبدأ: كان يرصد ما يحدث من حوله ويتخذ الإجراءات حينما يكون قادراً على ذلك، دون أن يلفت الانتباه إلى شخصه أو يسعى إلى مطالبة بتقدير على أفعاله. الحروب تبعت بعضها بعضاً. 
في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، تابع المناقشات السياسية التي أشعلتها حرب الاستقلال الجزائرية باهتمام، مسجّلاً بعض هذه التوترات في نصوصه من تلك الفترة، كما دعم رئيس تحريره الفرنسي، الذي كان مؤازراً وصديقًا مقرّباً، طوال الأوقات الصعبة، والرقابة على المطبوعات، والصراع مع المحاكم.
إرث بيكيت السياسي أوسع بكثير مما نعتقد. بالنسبة للعديد من معاصريه الذين طمحوا إلى رؤية التغيير، ليس فقط في الفن، ولكن في السياسة العالمية، كانت كتاباته تمتلك دلالة تاريخية قوية. منظّرون سياسيون راديكاليون مثل إرنست بلوخ وتيودور أدورنو وهربرت ماركوز، وكتّاب مسرح التغيير السياسي، مثل لورين هانزبيري، وأدريان كينيدي وأميري بركة، وفرق مسرحية مثل فرقة “المسرح الجنوبي الحر” المرتبطة بحركة الحقوق المدنية الأميركية، أبدوا اهتمامًا عميقًا بأعماله. الأماكن التي عُرضت فيها مسرحياته تخبرنا عن الإدراكات السياسية العميقة التي رآها الكثيرون في كتاباته.
كان بيكيت يدرك جيدًا القوة التي تتمتع بها كلماته بالنسبة لأولئك الذين في هم انتظار ـ حياة أفضل، والسلام، والعدالة. عندما أطلعه المخرج المسرحي السويدي يان جونسون على صور سجناء سود وهم يتمرنون على (في انتظار غودو) في سجن سان كوينتين، أجاب بقوله إنه يستطيع أن يرى في هذه الصور “جذور مسرحيته”. أعماله تشجعنا على النظر إلى ما هو أمامنا، لكي، على حد تعبيره، “نفتح أعيننا ونشاهد الفوضى”. أن نفتح أعيننا: قد تكون تلك أصعب مبادرة سياسية على 
الإطلاق.
 
(إميليا مورين: محاضرة أولى في اللغة الإنكليزية بجامعة يورك، ومؤلفة كتاب: خيال بيكيت السياسي)
 
The Institute of Art and Idas