مصممون لبنانيون يحولون ركام الانفجار الى فنون

بانوراما 2021/03/30
...

جيسيكا بيركيز 
ترجمة: مي اسماعيل 
في الرابع من آب 2020 هز انفجار هائل العاصمة اللبنانية بيروت، مسببا مقتل أكثر من مئتي شخص وجرح نحو ستة آلاف، سببه مواد كيمياوية متروكة في الميناء منذ سنين. وشملت الخسائر الاضافية عدة مصالح تجارية؛ من مشاغل لمصممين ومعارض فنون، الى مقاهٍ ومتاجر كتب ومخابز. وبعد بضعة أشهر تحاول الحياة في بيروت التركيز على اعادة البناء. 
بدأ مجتمع الاعمال الابداعية المحلي؛ من صائغي المجوهرات ومصممي الازياء وخبراء التصميم الداخلي (على وجه الخصوص) بمحاولة التعافي. ويحاول العديد منهم (وهم صانعو الذوق العام في المدينة) ابتكار قطع تعكس الاهوال والمشاعر التي عاشوها خلال السنة الماضية. 
 
“شظايا بيروت”
بعد الانفجار مباشرة، اقتلعت الاختان “نوبار”؛ “تانيا” و”ديما” (مالكتي ومؤسِستي علامة “نوبار” التجارية لتصميم الأكسسوارات) نفسيهما من بيروت وانتقلتا الى منزل الاسرة في الجبل (30 دقيقة خارج العاصمة). ووسط تلك الفوضى انتجتا واحدة من أفضل مجموعاتهما الفنية حتى الآن: “شظايا بيروت” للمجوهرات؛ قصيدة لبيروت كما كانت قبل الاتفجار. جُمعت أجزاء المجموعة خلال شهرين فقط؛ وهو ما يقارب المعجزة؛ إذا أخذنا بالاعتبار أن نوافذ المشغل كانت محطمة بفعل الانفجار. 
جرى استلهام مجموعة “شظايا بيروت” من عمارة الأحياء الثلاثة الأثيرة لدى الاختين: الصيفي والجميزة والأشرفية، والتي تضررت جميعا. هناك خاتم “الصيفي” المُهدى للمحلة حيثُ يوجد المشغل؛ المصمم بشكل يحاكي شعاع الشمس الملون؛ تكريما للنوافذ الملونة التي تشتهر بها المنطقة، والتي حطم الانفجار أغلبها. ولكن لعل القطعة الأكثر تأثيرا في المجموعة هي أقراط “سيدة سرسق”؛ المستوحاة من نوافذ الزجاج الملون لمتحف سرسق البيروتي المتميز؛ وهو متحف للفنون أقيم في منزل يعود للقرن التاسع عشر.. تحطمت نوافذ المتحف أيضا.. 
توفيت جراء الانفجار السيدة “إيفون كوكران سرسق”؛ التي كانت أسرتها تملك المتحف وتديره؛ إذ كانت حينها في منزلها قرب قصر سرسق. عُرِفت ايفون بتبنيها لمشاريع الاحسان والدفاع عن الفنون، وقضت عمرا وهي تعمل لحماية التراث الثقافي الوطني. تقول تانيا: “أردنا تكريس هذا التصميم لها؛ فقد عملت بجد كبير للحفاظ على تراثنا”. 
 
جمال المدينة
على بُعدِ بضعة أبواب من مشغل نوبار توجد  صالة عرض علامة “بوقجة” للأدوات المنزلية، التي عاودت العمل مؤخرا. المحرك التصميمي لهذه العلامة المصممتان “هدى بارودي” و”ماريا حبري”، في مشغل يبعد قليلا عن المعرض. لا تركز مجموعتهما الجديدة على استذكار بيروت التي كانت قبل الانفجار فحسب؛ بل التقاط ما أصبحت عليه الآن. وبسبب قيود جائحة كوفيد- 19 الصارمة العام الماضي؛ قضت المصممتان وقتا أطول بالتجول في ارجاء بيروت ومشاهدة المدينة بعين الحاضر. وعملت المصممتان على منسوجات تحاكي المزاج العام، تصلح للارتداء أو اللوحات الجدارية؛ تصور جمال بيروت كما اكتشفتاه تحت اجواء الحظر، والدمار بعد الانفجار. بجانب تصوير النوافذ اللبنانية المقوسة والازهار المتفتحة؛ صورت اللوحات المنسوجة شظايا الزجاج التي ملأت شوارع بيروت بعد الانفجار.. تقول بارودي: “لا يتعلق الأمر بالتحرُّك بأسرع ما يُمكن؛ بل تسجيل ما وقع الى حدٍ ما، واستمرار الشعور بالألم والحزن للحدث”. 
بعد الانفجار حولت المصممتان صالة معرضهما المحطمة الى مركز اجتماعي لإصلاح الاثاث المتضرر للناس. واستخدمتا خيوطا وغرزات حمراء لإصلاح أي ضرر بالمفروشات؛ مستمدتين معاني موازية للخيوط الحمراء التي استخدمها المسعفون لخياطة الجروح على الوجوه والايدي والارجل ليلة الانفجار. 
أسهم العمل الابداعي في مواجهة المحنة بالحفاظ على سلامة ذهن المصممة بارودي خلال الاوقات الصعبة المتقلبة التي عاشها لبنان مؤخرا؛ ففي شهر تشرين الاول سنة 2019 (قبل الانفجار) اندلعت الاحتجاجات في أرجاء لبنان داعية للتغيير السياسي، ثم تبعتها أزمة اقتصادية تعاظمت بفعل الفيروس. بدأت آلاف المصالح التجارية بإغلاق أبوابها، وتضاعف تقريبا عدد الفقراء خلال العام الماضي. تمضي بارودي قائلة: “لدينا دائما شيءٌ نقوله، والعمل في مشغل بوقجة هو لغتنا.. هذه المجموعات ((الفنية)) تمثل إرشيفا لقلوبنا”. 
 
“نحن موجودون لمؤازرتكم”
يتفهم المصمم “هاس ادريس”؛ صاحب دار الازياء التي تحمل اسمه، مشاعر بارودي جيدا، فرغم أن مشغله الواقع على بعد مسافة صغيرة من مشغلي نوبار وبوقجة قد عاود العمل؛ فإن الانفجار ترك أثرا عميقا عليه. 
وبعد أن عُرف بتصميم فساتين غريبة؛ إنطلق الآن في اتجاه إبداعي مغاير تماما، قائلا: “لست متحمسًا للعمل على الفساتين والعباءات والمعاطف والسترات حاليا”.
بالنسبة لإدريس بات الطلب من الخياطين ومطرزي الاقمشة الآن أن يعملوا لإنتاج قطع مترفة في هذه الظروف فهو أمر مشكوك به أخلاقيا، إذ يقول: “نحن أولا اسرة واحدة، ثم نُشكل عملا في المرتبة الثانية، باستطاعة الترف أن ينتظر؛ وهذا ليس وقت الترف”. بدلا من ذلك بدأ إدريس وفريقه العمل لإنتاج اللوحات المنسوجة؛ وهو انتاج جديد تماما بالنسبة لهم. إحدى تلك اللوحات تقدم صورا من بيروت، بينها طبقات من أجزاء الانقاض التي جمعها المصمم من تجواله في بعض الأحياء المتضررة. 
هذه اللوحات جزء من مشروع “لوحات اجتماعية” الذي أطلقه بدلا من تقديم مجموعة أزياء الخريف/ الشتاء المعتادة. 
يقدم المشروع أعمال المصمم الأخيرة، مع صور لنساء لبنانيات وكلماتهن عن مواضيع أثرّت عليهن، من تصوير المصور “محمد عبدوني”. ويعلق إدريس: “نحن نمر بأمور أكثر بكثير مما نقدمه، وأُريدُ هنا أن أعرض ما نمر
به”. 
بالنسبة للمصممين اللبنانيين باتت عملية خلق مجموعة جديدة خلال وقت قصير بعد الانفجار، بمثابة تعبير عن العواطف، وفعل للبقاء.. أصبح التركيز في مشغل بوقجة عند نهاية كل شهر لضمان القدرة على دفع مرتبات الخياطين والمُطرِزين العشرين الموظفين لديهم. تقول حبري: “لا نطمح بأكثر من ذلك اطلاقا”؛ وهو منظور يشترك فيه أيضا نوبار وادريس، ما زالت قضية إعادة بناء الخط المهني وخلق منتجات جديدة أشبه بمعركة لصعود التل؛ رغم أن ارادة المصممين لم تتزعزع؛ فهم عازمون على البقاء في لبنان ويأملون أن توصل مجموعاتهم الجديدة تلك الرسالة الى موظفيهم والشعب اللبناني. علقت تانيا نوبار قائلة: “لهذا السبب قدمنا مجموعة “شظايا بيروت” في مثل هذا الوقت القصير”.
يشعر الفنانون بالأمل بفضل مد المؤازرة العالمي الذي وصلهم منذ الانفجار، وتقول بارودي إن مشغل بوقجة تلقى بالفعل عروضا للمشاركة في معارض ستقام في لندن وسنغافورة والخليج، بينما اعادت المتاجر التي ألغت طلباتها بسبب جائحة كورونا طلب المنتجات. تمضي بارودي قائلة (مشيرة لاعادة طلب المشتريات): “هذا أمر كبير بالنسبة لي؛ فهي طريقة الآخرين للقول- نحن موجودون لمؤازرتكم”. 
 
مجلة “ماري كلير”