د. عبدالحسين الدرويش
ما زالت النيران متقدة, ومن خلال تصاعد ألسنتها, بعد وضع أغصان الأشجار اليابسة التي جاء بها (العبد), وقام بتقديم حزمة بعد أخرى, حتى تصاعد اللهب, بصوتٍ له هسيسٌ خافتٌ, لأنه يعلم في قرارة نفسه, لو علم عمه الشيخ بانطفاء هذه النيران للحظات لقتله فوراً.!
وتبقى هذه الشعلة صباحاً ومساءً مشتعلة, كشعلة الألعاب الأولمبيَّة الأزليَّة, وبعد ذلك بدأ يدق الهاون الكبير لكي يطحن حبات القهوة السوداء, مع الهيل, وهو يمارس عمله بجدية ويترنم بصوته مع دقات الهاون, كأنها دقات الوجود, حيث يعمل مع الشيخ منذ صباه, قبل نحو ثلاثين سنة مضت.
عندما أقبل الشيخ على المضيف المبني من القصب, الذي يجلب من عمق الأهوار, ويتم بناؤه, بعد أنْ ترش أعواد القصب بالماء, وتنظف قشورها, ثم تقسم على شكل مجموعات من الحزم الطويلة المقوسة الضخمة تسمى (الشبّه), وهي ركائز توضع نهاياتها السميكة في حفر متقابلة لمثيلتها في الطرف الآخر, وتتشابك مع بعضها في السقف, ثم تحكم الشبّات بركيزة أفقية توضع في سقف المضيف, ثم يغلف بحصران من القصب, وعندما انبعثت رائحة دلال القهوة العربيَّة المعطرة بالهيل, في أرجاء المضيف, عند ذلك نهض (العبد) بقوة وهو يرد السلام الى الشيخ: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته, أهلاً وسهلاً بعمي الشيخ, فلما رأى الشيخ كل شيء في المضيف على ما يرام قال للعبد: أحسنتم وبارك الله فيكم, وأردف الشيخ بالقول: لكنني محتاج منك أنْ تذهب فوراً الى الحقل وتصحب معك أولادي, للذهاب الى الضفة الأخرى للفرات, قريباً من ذي الكفل, في خان النص, منطقة الحيدريَّة, فكان جواب العبد: يا طويل العمر أمرك مطاع واعتبر المهمة مقضية! عندها غادر (العبد) المضيف باتجاه مزارع الشلب التي تفوح منها رائحة عنبر المشخاب وطيور الماء التي تحوم حول الشلب, ونعيق الغربان, وزقزقة الزرازير, التي تصعد الى أعالي السماء الزرقاء, وفي تلك اللحظة جاء ضيوف الى المضيف.. فرح الشيخ فرحاً كبيراً وهو يرحب بهم, وعلامة السرور ترتسم على وجهه الوسيم, وبعد أنْ وزع فناجين القهوةبينهم, طلب الاذن منهم، بالذهاب الى داخل البيت وقال لهم مردداً: البيت بيتكم!, ثم أردف بالقول: لحظات وسوف أعود إليكم.. أرجو المعذرة.!.
ذهب الشيخ الى ضفة النهر, القريبة من الشاطئ, وهو يحدق الى الضفة الأخرى من النهر, وينتظر بفارغ الصبر أنْ يعود أولاده والعبد معهم, وكان يرى النهر وكأنه أصبح بحراً لا تحده حدود, وأنه كالأفق الشاسع, وكان الشيخ حائراً جداً وفكره يدور حول الضيوف الذين تركهم وحدهم في المضيف, ليس معهم أحد, ولا يوجد لديه زورق ولا (كلك) آخر, أو أي وسيلة يستطيع أنْ يعبر بها النهر, وكان الشيخ في حالة من الحيرة التي غطت معالم وجهه وشخصه, واليأس الذي أخذ منه مأخذاً بسبب تأخره عن الضيوف, وتقديم أفضل ما عنده لهم, وكان لسان حاله دائماً يقول (يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل), وهو يعيش هذه الحالة لأول مرة في حياته, عنده الضيف يبقى عزيزاً مهما كلف الأمر, وكان واقفاً على جزرة صغيرة قريبة من الشاطئ، وفي تلك اللحظة أحس الشيخ بأنَّ الجزرة الصغيرة انفصلت عن الشاطئ, وتحركت بهدوء نحو الجهة الأخرى من النهر, وانفصلت عن جرف النهر, وانهدمت الكتلة الترابيَّة, وأصبحت كزورقٍ ترابيٍ يشق موجات النهر شقاً, نحو الجهة الأخرى بانسيابيَّة عالية, وما هي إلا لحظات حتى وصل زورقه الترابي الى الجهة المقابلة, حيث سوق المواشي, يتصاعد منه صوت الأغنام بمأمأة حادة, وخوار البقر والجاموس, ترجل الشيخ من مركبته الترابيَّة وقام بالتبضع لما يحتاجه للضيوف من الأغنام وأشياء أخرى, وأمر أنْ توضع بضاعته في ذلك المكان نفسه, وعندما صعد الى الكتلة الترابية تحرك زورقه الترابي الى الجهة الأخرى, وعندما وصل الشيخ مع بضاعته الى الجهة الأخرى من النهر, وقف زورقه الترابي في المكان نفسه الذي انطلق منه, أي أصبحت جزرة صغيرة اندمجت في المكان ذاته, وتحولت الى جزءٍ من ضفة النهر من جديد, وكان أولاده والعبد منتظرين وصول الشيخ بفارغ الصبر, قلقين عليه, لوجود الضيوف في المضيف, وعدم تواجد الشيخ معهم.!
مئة علامة استفهام وتعجب؟؟؟!!!..
كيف يترك الشيخ ضيوفه وحدهم في مضيفه العامر؟ إلّا لأمرٍ في غاية الأهمية, وبعد ذلك عندما وضع الشيخ قدمه على الجرف ومعه الغنم والبضاعة التي جلبها من السوق, أمر الشيخ أنْ تؤخذ الأغنام والبضاعة حتى يعدوا العدة لإكمال الوليمة الخاصة بالضيوف, فرفع العبد عقيرته بقوله: عونك محفوظ.. وأردف بالقول بتعجبٍ وتباهٍ بكرامة سيده المبخوت: اللهم صل على محمد وآل محمد.. أهلاً وسهلاً بالسيد الشيخ أبو هَدْمَة!!..