فن التمثيل استعداد أولا، تصقله التجربة وجملة من المؤثرات في مرحلة بناء الشخصية، يمكنك أن تصنع مؤدياً جيداً؛ لكنك لن تصنع ممثلا. فالأمر أكثر تعقيداً من إلقاء حوار أو من حركة على خشبة. ثمة من يولد ممثلا، يجري التمثيل في دمه ويتحول الى هوس، وهو ما نطلق عليه مجازاً (الموهبة)، وثمة قدرة على التنوع وتجسيد مختلف الشخصيات بلا تكلف أو اصطناع؛ بل بتلقائيَّة وليونة. ينطبق هذا الوصف تماماً على الممثل المبدع علي خضير ذلك الفنان الذي لا يقف أمام موهبته أي نمط أدائي أو حالة يتطلبها الإخراج. وبصرف النظر عن دراسته في روسيا وحصوله على الماجستير فإنه وجد في الحياة كي يكون
ممثلا.
ربما اغتنت تجربته وصُقلت عبر دراسته الأكاديميَّة في البصرة، وربما وفرت له الأدوار التي أداها بعد ذلك في مدينة الناصرية فائدة الاحتكاك.
لكنه بنى نفسه بنفسه؛ ولو أنه وجد وحده في صحراء لكان أول شيء يقوم به: أنْ يمثل.
عند علي خضير حسّ مرهفٌ مركبٌ. فالكلمة لها جوهر، غالباً ما يقتنصه بدقة، وللكلمة شكل غالباً ما يكتشفه. من الاقتناص والاكتشاف يتحرك جسده مطواعاً كي يعبر عنها وعن الحالة التي تحتويها.
وهكذا ينتقل من حالة الى حالة مجسداً في كلّ مرة أدقّ صورة لما يريد أنْ يقوله الحوار أو ما يتصوره المخرج. يتجسد ذلك في مسرحية (الخنازير) حيث يتحول الى أكثر من خمس عشرة شخصية من غير نشاز أو تصنّع أو فجوات.
لو تفحصت طريقة تمثيل علي خضير لوجدت أنّ كل جزءٍ من جسده يأخذ تعبيراً محدداً وحركة معينة مقترنة ومتطابقة مع روح المشهد. أصابع يديه تمثل، جذعه اللين يتخذ شكلاً متوازناً مع الأصابع، والرقبة تميل حسب طبيعة الجملة، وحاجباه يظهران بأشكالٍ متعددة، وعيناه تتسعان أو تضيقان، أما قدماه فتشبهان في حركتهما راقصات الباليه: فهو خفيف، وأشبه ببجعة على ماء، يمكن ملاحظة ذلك من تجسيده لدور (المبشر) في مسرحية (هو الذي رأى)، ومساعد الديكتاتور في (افتراض ما حدث فعلاً).
لحنجرة علي خضير مقدرة على التنوع الى درجة أنها يمكن أن تتلون الى ما لا نهاية. فهو حتى حين يتخذ الطبقة الصوتية نفسها أو مناطق النطق نفسها؛ يظهر بعض التموجات أو العِرَب التي لا تجعل إلقاءه يقع في المونوتون مطلقاً.
يتخذ مستويين للصوت: القرار والجواب وفي كلا الحالتين سيسمع الجمهور قراره بوضوح مثلما لا يزعج جوابه الأذن، وما بين القرار والجواب ينتقل في السلم الموسيقي بأريحيّة كاملة، لأنه يؤمن أنّ لكل الحروف حقاً في الظهور. مثلا، الصوت النسائي لديه لا يميل الى الادغام بل يتمتع بأعلى درجات الوضوح. ولأنه – باستخدام الحنجرة- لا يمثل من الحنجرة وحدها فإنه يوازن بين الحالة النفسية وطبيعة المشهد وزمن الإلقاء ومستوى الصوت ارتفاعاً وانخفاضاً.
وهذا ما فعله في مسرحية (رحلة الى الفردوس) خاصة في الانتقال من الصوت النسائي الى الصوت الرجالي بطريقة منسجمة وطبيعيَّة. ومما يساعده على أنْ يكون من بين أكثر الممثلين قدرة على إرضاء مخيلة أي مخرج يعمل معه أنه ممثل منصت، غير استعراضي، يفتقر للأنانيَّة، ويسعى دائماً الى مكانٍ أرقى مما هو عليه. كذلك، يتحلى بمقدرة فائقة على الفهم وتحويل الفهم الى تطبيقٍ
عملي.
ففي حالة الارتجال، يدفعه نبله الى استشارة المخرج والاتفاق معه على الحالة المرتجلة، وعندما لا يصل الى معرفة كاملة بالحالة المعطاة، يستفسر ويبحث حتى يجد أعمق تجسيدٍ لا يتناقض مع الرؤية الإخراجيَّة من جهة ولا مع اقتناعه الشخصي بطبيعة الشخصيَّة من جهة أخرى، ويتضح ذلك جلياً في مسرحية (الليلة الحادية
والأربعين).
ذهن الفنان علي خضير لا يقل مهارة عن جسده وحنجرته. فهو من الممثلين القلائل الذين يعرفون كيف يصلون الى المعنى.
هناك معنى لطريقة إلقاء الجملة، ومعنى للحركة الجسديَّة المرافقة، مبنية كلياً على طبيعة الشخصيَّة وحالتها من أجل إيصال معنى شاملٍ وكبيرٍ هو معنى العرض المسرحي بأكمله. هذا الوعي الفني يتيح أمامه إمكانية أنْ ينطق الكلمة مفردة، او يركبها مع كلمة أخرى، أو ينطق الجملة كاملة. المعنى عنده مرتبط بالجسد والحنجرة، بتوافق مع
المشهد.
من جانبٍ موازٍ لذلك، يعي علي خضير تماماً أخطر ما في فن التمثيل من مهارة، والذي يهمله العديد من الممثلين البارزين، إنها لحظات الصمت. يعرف متى يترك الفراغ كي يملأ المعنى، يعرف كيف يطيله ومتى. في أدائه، يعطي الصمت أهمية توازي التفوه والنطق، وبين يديه خيارات عديدة لكنه يقيس الصمت والكلام بميزان
الذهب.
من مميزاته أنه يتحسس الإيقاع، ويشعر به، فلديه مقدرة على قياس الزمن المطلوب بالنسبة الى الزمن المفقود، فيمكّنه ذلك من أنْ يمسك بإيقاع العرض ويرفعه خاصة عندما يهبط أداء زملائه الممثلين من غير أنْ يسرق الأضواء ويحوّلها الى ذاته كفردٍ وليس الى الشخصية أو
العرض.
يمتلك الفنان علي خضير من المؤهلات ما يجعله في مصاف كبار الممثلين، لولا تواضعه وذهاب الأضواء الى من
يعرفون كيف يجذبون
الأضواء.
فطواعية الجسد عنده تمكنه من الرقص والشقلبة واتخاذ أوضاع جسديَّة مختلفة، وطواعية الحنجرة تمكنه من الغناء الريفي والاوبرالي وتأدية مختلف الصيغ الصوتيَّة، وطواعية الوعي تعطيه القدرة على فهمٍ عميقٍ للشخصيَّة، أما إخلاصه وتفانيه فيجعلانه يعطي كل وجوده لفنه، وبذلك يتكامل الفنان
الحقيقي.