عن الغائب الأكبر!

منصة 2021/04/06
...

 ميادة سفر
 
الأغنية الملتزمة!.. عنوان عريض لحقبة زمنية ربما مضت إلى غير رجعة!.. أين أصبحت الآن؟.. هل كانت مجرد “موضة” ثم انطفأت؟!.. أم وضعت في طريقها عراقيل لوأدها عن سبق إصرار وترصد؟!.. 
اليوم ونحن نبحث عن موجة الأغاني التي أطلق عليها وصف “الملتزمة” والتي راجت في ستينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي، أثناء ما عرف بالمد القومي والثوري اليساري، لن نجد من جديدها إلا الشحيح القليل وإنْ وجد هذا القليل، فذلك لا يلغي مشروعية السؤال: أين هي تلك الأغنية اليوم؟.. أين مطربوها وشعراؤها؟.. أين القضايا التي حملتها وألهبت مشاعر الجماهير وأشعلت قلوبها وحرّضت عقولها؟.. ألم يعد في البلاد العربيَّة ما يمكن الحديث عنه، كقضايا وطنيَّة ومصيريَّة، وتأليف الشعر والموسيقى لأجله؟.. أنعيش جميعاً في عالم من الحرية والتحرر حتى تغيب تلك الأغاني التي تربت عليها أجيال؟.. 
هل حررت كل الأراضي المحتلة ولا حاجة بعد لتجييش المقاتلين والثوار وإشعال حميّتهم بالغناء والشعر؟.. أسئلة كثيرة تتزاحم في الأذهان أثناء الحديث عن تلك الأغنية الغائبة هذه الأيام، والإجابة عنها ستفتح أبواباً وشبابيك على واقع عربي مزرٍ، واقع تغزوه التفاهة والتسطيح والابتذال في كثير من مفاصله، الثقافية، الفنية، الاجتماعية، الاقتصادية، وأيضاً السياسية!. 
بدأ اغتراب الأغنية الملتزمة، أو الوطنية أو السياسية حسب ما يحلو للبعض تسميتها، في تسعينات القرن الماضي بفعل عدة عوامل، لعل أبرزها ظهور القنوات والمحطات الفضائية التي بدأت تروج لشكل جديد من الفنون الغنائية، تلك التي تعتمد على الإيقاع السريع والصورة والإبهار واللغة البصرية، بغض النظر عن الكلمات واللحن وحتى الصوت في كثير من الأحيان، فضلاً عن بعدها عن الاهتمام بالقضايا العامة التي تحاكي أحوال الشعوب على اختلافها، سعياً وراء الربح المادي السريع. 
هذا بالإضافة للمنع والحظر الذي مورس بحق المطربين الذين تبنوا وجهات نظر تخالف السلطات الحاكمة في بعض الدول العربية، حيث منعت ألبوماتهم من البيع والتداول في الأسواق، ومنعوا من إقامة الحفلات في غير بلد عربي، كل ذلك أدى إلى اعتكاف أغلبهم ودخولهم فيما يشبه الخيبة، وبالتالي تراجع تلك الأغنية شيئاً فشيئاً، ولاحقاً، تحول أكثرهم إلى التأليف الموسيقي وتقديم الألحان لمطربين آخرين، والابتعاد عن اللون الفني الذي عرفوا من 
خلاله. 
ومع انطلاق ما سمي “ثورات الربيع العربي” اعتقد البعض أنها ربما تكون فرصة مؤاتية لإعادة إحياء الأغاني الثورية الملتزمة، ظناً منهم أن هذا هو مجالها وميدانها ومسرح العودة لانطلاقها وتجددها!.. لكنّ المحزن والمفجع أن الأغاني التي رافقت تلك التحركات كانت أبعد ما تكون عن الدعوة إلى السلام والتحرر والتحرير والحرية، بل كانت تدعو للقتل وإقصاء الآخر والدعوة إلى طرده من بيته وأرضه ووطنه!.. والمؤسف أكثر أن هذه الدعوات لم تُرفع في وجه العدو المحتل، إنما رفعها أبناء الوطن الواحد في وجوه بعضهم 
بعضاً!. 
ما حلّ بالموسيقى والفنون بشكل عام، ما هو إلا جزء من التلوث السمعي الذي ملأ حياتنا بالصراخ والزعيق، والابتعاد عن محاكاة ما يشغل بال المواطن من قلق وهواجس، ويلامس همومه.. أكثر من هذا، لم يعد للأوطان حضور في الأغنية، فقد حلّ القائد وإنجازاته مكانها!.. شجون على هيئة أسئلة مؤرقة لا تنتهي عن واقع يعيشه الإنسان العربي.. 
من يدري.. قد يغدو الحديث عن الموسيقى اليوم ضرباً من ضروب الترف الزائد، لكن مثل هذا الحديث لا بدّ منه على أية حال!.. لعله ينقذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن نعلن وعمّا قريب وفاة الأغنية المذكورة أعلاه وانتقالها من حالة الموت السريري إلى الموت النهائي، بحيث تصير مجرد أثر بعد عين!.. من يدري؟!