سلسلة من المراجعات قامت بها سلمى، استمرت لأكثر من سنة بين عيادات الاطباء والمستشفيات في بغداد وبعض المحافظات والدول المجاورة، وكل ذلك لم يطفئ نار قلقها الذي بدأ مع أول عارض اصيبت به عندما فقدت الجنين الذي زرع لها بعملية طفل الانابيب، وقبل خسارته وبعده تلقت علاجات شتى اتعبت معدتها، وهي التي كانت لا تحبذ زيارة الطبيب اطلاقا مهما حصل لها طوال عمرها الذي تجاوز الـ45 عاماً.
الألم النفسي
ترى سلمى مولود ان حالتها لم تستقر لغاية الان، بل على العكس تماما فقد اهلكتها نفسيا بسبب التفكير الزائد والخوف من المجهول، لاسيما انها مع كل زيارة لطبيب بدلا من أن تحصل على الشفاء التام صارت تتفاجأ بظهور امراض اخرى جديدة، وهكذا حتى ادمنت البحث والسؤال اليومي مع متخصصين في مواقع التواصل الاجتماعي، وباتت تراودها الشكوك في كل حالة بسيطة تحصل بجسمها، فوصلت الى مرحلة عدم الوثوق بأي طبيب لانها جربت الكثير منهم بلا جدوى، و من دون أن تشعر تحول الموضوع في نهاية المطاف الى مرض نفسي واكتئاب، وامام هذا الالم النفسي الذي لم تعد تسيطر عليه وعلى معاناتها بسببه، قررت ترك جميع الادوية، والخروج من دوامة المرض وقطع ذلك الطريق الذي بدأته ويبدو انه لن ينتهي، ما جعلها تدور بالدائرة نفسها، اذ ان العلاجات والادوية التي تناولتها اضحت توترها الى درجة العجز عن اداء اي نشاط حيوي، وتشغلها عن ممارسة حياتها الطبيعية، اذ قالت: "اعتقد ان هناك حلولا اخرى بديلة غير الادوية من الممكن أن تنقذني من مأساتي هذه، لاني مللت المرض وليس امامي غير الانتفاض على ما انا عليه الآن".
كبار السن
اما الحاج ناصر مهدي الذي عرف بمرحلة شبابه كانسان نشط يعشق الحياة بجميع تفاصيلها، ويتمتع بصحة جيدة ويمارس هوايات عديدة الى جانب عمله موظفا في احدى الدوائر الحكومية، فأصيب بنوبة ربو شديدة بعد تقاعده وتطور معه المرض حتى تقدم به العمر وصار على اعتاب السبعين، في بداية الامر تقبل مرضه هذا وتعامل معه بشكل طبيعي الا انه مع مرور السنوات وكلما تكررت لديه النوبة زاد خوفه وهلعه من الموت، وتفكيره الدائم جعله لا يتوقف عن طلب تناول مختلف الادوية، حتى لو لم يكن يشكو من الم ومن دون وصفة طبية، واكدت ابنته علياء: "مع انتشار كورونا والجلوس الاجباري بالبيت ومراقبة الاخبار السيئة عن عدد الاصابات والوفيات الى جانب التحذيرات الخاصة لكبار السن بالذات، اصبح والدي مثل الاطفال لا ينام الا بصعوبة وفي كل وقت يطلب جهاز قياس الضغط ويخترع الحجج من اجل الاهتمام به، علما انه ليست لديه اعراض معينة تدفعه لذلك، لكننا في البيت تفهمنا وضعه هذا، وبصراحة الحزن يخيم علينا، لاننا لا نستطيع مساعدته ولا يمكن أن نعترض احيانا اذا تناول ادوية نعرف جيداً انها لا تنفعه بل قد تضره، وحتى لو نصحناه بتركها لا يقتنع بمخاطرها عليه، لكنها تترك اثرا نفسيا جيدا وارتياحا لديه".
أزمة مؤقتة
يرى اكرم ناجي (موظف في العقد الثالث من عمره) أن "لا بأس في أن يحرص الانسان على صحته ويجري فحوصات بين آونة واخرى مهما كان عمره وحتى لو لم يعان من مشكلة صحية، وهذا شيء اعتبره جيدا، كونه دليلا على الوعي الذي يتمتع به، اذ علميا ينبغي ان يكون هناك فحص دوري لجسم الانسان، لانه يتغير ويتعرض لكثير من الاختلافات ولا يجب الانتظار لغاية أن يتفاجأ بمرض معين، ولذا لا اسميه (هوس) بل (حرص ووعي)، اذ من الممكن للشخص أن يبحث ويسأل ويتابع حلقات متخصصين ويعمل بارشاداتهم ".
في حين تجد الجامعية نورا احمد "ان المتمارض شخص يؤذي نفسه اكثر من اسرته والناس الذين حوله، فمن الخطأ معاملته كمريض ويفترض أن نتصرف معه بأسلوب مختلف، ومن الضروري أن نفهمه بان مرضه ازمة مؤقتة وستمضي، خاصة اذا كان يعاني من مرض ما، اذ ان المشكلة في الغالب التفكير بالمرض وهو من يصنع المرض وبالتالي يخلق اجواء سلبية تسبب المرض حتى وان كان الجسم خاليا من اي علة".
عن حالتها قالت نورا "من النادر أن ابقى مريضة لفترة طويلة لاني اعتدت عندما اتلقى العلاج حتى لو لم يكن ذا فائدة لي في داخلي اصنع يقينا وايمانا قويا بانه سوف يشفيني وهكذا، ومع ذلك ليس كل الناس يتشابهون في التعامل مع المرض وينبغي عندما نجد من لديه هوس وخوف أن نقدم على مساعدته وعدم الضغط عليه، ونحاول تحمل مزاجيته، لانه دخل في متاهة لا يمكن أن يخرج منها بسهولة حتى اذا كان سليما، الا بمنحه الرعاية الكافية واعانته على تجاوز تلك المرحلة وتذكيره دوما بقول النبي عليه افضل الصلاة والسلام (لا تتمارضوا فتمرضوا)".
دور الضحية
تفسر لبنى البكر المتخصصة بالوعي ومدربة تفكيك برمجة اللاوعي، المرض بأنه حالة يتعاطف معها الآخرون، فالاشخاص بالغالب تعودوا العيش بهذه الحالة، اذ تمنحهم صيغة عيش يتعاطف معها الآخرون، اذ ان بالعمق تلك الحالة تتولد نتيجة احتياج عاطفي للاهتمام، واضافت: "ان أبسط برمجة علينا تغييرها، هي انه بدلا من استخدام مفردات المرض في العيادات والمختبرات من الممكن استخدام مفردات التشافي مثلا وعيادة صحة القلب بدلا من عيادة امراض القلب ومختبرات التحليلات الصحية بدلا من مختبرات التحليلات المرضية وهكذا".
موضحة: "ان الشعب العراقي خزنت بعقله اللاواعي برمجة الالم والمرض ودور الضحية بسبب عيشه لسنوات بمعاناة برمجة اللاواعي على ذلك، فالكلمة تولد فكرة والفكرة تولد مشاعر، لذا كلمة مرض مع شكوى مستمرة تولد افكارا سلبية، وبالتالي مشاعر سلبية مرافقة للجسد فتتراكم الامراض تبعا لذلك، وعندما نبدأ بتغيير الشعور المرافق للامراض وتحرير المكبوتات المخزنة والصدمات ومشاعر الالم والذكريات، والتي خزنت بشكل واع وغير واع، فعندها تبدأ اجسادنا بالتشافي تبعا لتشافي الجسد المشاعري وتحريره، ومن اجل ذلك فهناك عدة طرق للتحرر من الالم والصدمات المكبوتة وحالات الغضب والتوتر والخوف والقلق عبر جلسات التحرر مع مختص بالوعي او جلسات الاكسس بار او جلسات الثيتا هيلينك والعديد من وسائل التحرر، وعندها سيبدأ الجسد المادي بالتشافي، لاننا البشر نمتلك اجهزة تشاف ذاتي تعمل بكفاءة عالية جدا، فاذا تحرر الجسد المشاعري يعود الجسد المادي للتحسن وتختفي الامراض التي اصابت الجسد، فحالة الهوس بالمرض هي حالة مرافقة لحالة الاحتياج العاطفي والمشاعري الشديد داخليا والحاجة للاهتمام، ما أن نصحح حالة الجسد المشاعري حتى يعاود الجسد الفكري والجسد المادي التعافي والتشافي."