تحدثنا في مقالة سابقة عن حال المسرح العراقي صاحب المنجز الكبير والريادة في استنهاض مسرح عربي ذي خصوصية وتميز والذي ما انقطع مبدعوه والمشغولون فيه عن البحث والاجتهاد رغم كل الظروف التي مرت على الوطن، لاسيما بعد اعصار 2003 ، فقد أفاقوا من الصدمة وتنبّهوا لمحاولات البعض تجيير المسرح وتوجهاته ومحاولة ليّ عنقه نحو غايات وأهداف تسعى للمنفعة والتقرب وهدم تقاليده واقصاء الفاعلين فيه تحت ذرائع متعددة، لم يكن العمل سهلا فمع غياب أداة قمع ورقابة ومسألة وتشكيك ظهرت محاذير جديدة وتابوات مبتكرة وبرزت وجوه حاولت تأجير وتجيير ذمم بعض المبدعين باتجاه توجهات وتكتلات ذات نفوذ وتمكن مقابل منح صكوك غفران وتغطية انتماءات ! كان على المبدع العراقي أن يحدد موقفه ما بين أن يكون ضمن ارادته الحرة أو وقف موهبته وتأريخه لجهات معينة تبسط عليه حمايتها! كان الامر في بدايته مخيفا، لاسيما لدى القلوب المرهفة والارواح الرقيقة، وقتها فوجئنا بتبدل أقنعة وتغير خطاب ونكوص سلوك، رغم ذلك بقي المسرح العراقي فاعلا ولكن بتوجهات متخبطة وأساليب فوضية الا بعض التجارب الناضجة والمنطلقة من فكر نيّر وروح عراقية تنتمي للفن والجمال وتتخذ من العراق بكل أطيافه وألوانه حضنا وملاذا وتصيغ خطابها الجمالي بروح المحبة والتسامح والتعالي عن الشتات، وبعد انغلاق وعزلة فرضت على المسرح العراقي ومبدعيه الا من رحم ربي انفتحت أبواب الوطن العربي عبر المهرجانات والملتقيات وأصبح الفنان العراقي مرحبا به ومعه منجزه في أي محفل أو تجمع فني ثم ما عادت أوروبا بلادا بعيدة المنال فقد فتحت هي الاخرى أذرعها لاستقبال المسرح العراقي وأصحابه بشتى وتنوع تجاربهم بغية التعرف والفهم لطبيعة تلك التجارب وآلية الاشتغال وما يدور في عقول هؤلاء المشتغلين على الظاهرة المسرحية بعد كل تلك الارهاصات والحروب والتقلبات التي مر بها بلدهم !!.
اسماء شبابية
برزت أسماء شبابية متميزة وقد كان الشباب بحكم توقهم ورغبتهم في التغيير والخروج من عباءة الوصايا الابوية أكثر من تحمس وعمل على سبر أغوار التجريب والبحث والمغامرة الصادمة أحيانا في العمل المسرحي لأسباب عدة بعضها أنهم لم يكونوا يستطيعون نيل الفرص للعمل بحكم قانون تم وضعه والعمل به قد لا يكون مكتوبا لكنه كان ضمن التقاليد المسرحية التي تم التعامل معها للحفاظ على دائرة العلاقات في الوسط المسرحي لخلق حالة من التراتبية السليمة في تربية الكوادر الفنية الجديدة دون القفز الى أرض المسرح دون مظلات حماية، لان العمل المسرحي ليس سهلا، والتعامل مع أبي الفنون المسرح يستدعي المعرفة والمتابعة والتعلم من خلال التجارب المتعددة لانضاج التجربة ومنحها القدرة والتمكن الواثق الذي يبعد الفنان الفاعل من التعثر ويحميه من الاخفاق، تواصل العمل لدى بعض المسرحيين الذين أرادوا أن يتواجدوا على الساحة الفنية بحكم تجربتهم وتأريخهم منهم من حافظ على ذلك الألق والتميز دون تقديم تنازلات ومنهم من تخبط بين الحذر والتردد في صياغة خطاب مسرحي لا يسبب ضررا أو يثير تساؤلا !! وبقدر ما كان الزمن السابق حاملا لمحاذير بقدر ما صارالزمن الجديد حاملا لتابوات ومحاذير وظهر نوع حديث من الرقابة الامنية وليست الفنية، رقابة توصل رسالتها لهذا الكيان أو ذاك لتشوه وتنال من أسماء ومنجزات الهدف، منها الازاحة والتحجيم والغريب أن هذه المجموعة كانت من أبناء المسرح ذاته !! لذا تم وئد عروض مسرحية وايقافها أو منع ظهورها على فضاءات المسرح ومسألة أصحاب منجز والتشكيك بطروحات قامات كبيرة وساعد في خلق ذلك الاذى وجود حالة الفوضى وتعدد الولاءات والمطامع الشخصية للبعض للازاحة والتواجد بدلا من هذا الفنان أو ذاك المبدع، نحن نكتب عن واقع عشناه ولم نكن بعيدين عنه وهو تأريخ علينا أن نتأمله جيدا لمعرفة حجم الاوجاع والخسارات وفداحة الثمن الذي دفعه الفنان العراقي في الازمنة المختلفة وهو يلاحق حلمه في الانجاز والابداع والابتكار الذي يقدمه ليس في بلده حسب بل الى العالم أجمع بوصفه باحثا ومجتهدا وساحرا في لعبة العمران والابتكار للنفس .
علينا حين نكتب أن نكون دقيقين وواعين وبعيدين عن التأثرية والذاتية قريبين من روح المواطنة والحقيقة ، ما كان يمور في داخل الارض العراقية من تجاذبات وصدامات ومحاولات تعتيم وازاحة كان له أثره في علاقة المسرح العراقي بالمهرجانات العربية والقائمين عليها في بلدان الوطن العربي الذين تعمدوا التعامل مع عدد من الاسماء المتميزة لغرض معرفة مقدار مطاوعتها واذعانها لنهج وتوجه تلك المهرجانات، والذي زاد من تفاقم الاذى أن الفنان العراقي داخل الارض العراقية كان يواجه العديد من الضغوط تتمثل بالآتي:
1 - عدم وجود بنى تحتية قادرة على تلبية رغباته في العمل والانجاز فمسرح الرشيد وهو من أرقى المسارح في الشرق الاوسط ترك مهملا دون التفكير في اعادة اعماره وتهيئته ليكون معينا للمسرح الوطني والذي تحول الى دائرة رسمية ومقرا للسينما والمسرح .
2 - بقاء دائرة السينما والمسرح خاضعة للتمويل الذاتي الذي يجعلها تحت رحمة وزارة المالية من خلال صرف السلف التشغيلية لها للعمل والانجاز في الوقت الذي كان لزاما على الحكومة اعادتها الى قانونها الاساس والذي تم التلاعب به خلال فترة النظام السابق لاغراض نفعية وسياسية .
3 - سياسة الحكومات العراقية المتعاقبة والتي نظرت الى الفنون والثقافة بوصفهما مكملات ثانوية في البنية الاجتماعية فلم تخصص لهما الميزانيات الكافية واعتبرت وزارة الثقافة وزارة غير سيادية وجعلتها في آخر القائمة في الاهمية بين الوزارات وفرضت عليها ميزانية شحيحة لاتكفي لكي تنجز هذه الوزارة مهماتها الثقافية والفنية.
4 - لا وجود ولا ذكر للفنان في الدستور العراقي ولا وجود له في البرلمان العراقي وليس هناك من يمثله داخل هذا التكوين الذي يمثل الشعب بكل ألوانه وأطيافه .
5 - وجود تكتلات سياسية تنظر للفنون والثقافة بوصفهما وسائل للترف والخروج عن الاداب العامة ومسيئة للبنية الاجتماعية ومتضاربة مع التوجهات الاخلاقية والدينية التي تتمثلها تلك الكتل في تعاملاتها ونهجها الفكري،لذا تقوم بتشديد الخناق عليها وتحجيمها تحت شتى الذرائع.
6 - عدم تخصيص الميزانيات المعافاة للدوائر التي تعنى بالظاهرة المسرحية والعمل على التلاعب بالسلف التشغيلية المخصصة لتلك الدوائر كدائرة السينما والمسرح وجعل التقشف شماعة وعذرا لتبرير شحة الميزانيات.