روائيَّة فرَّت من الطغيان النازي

بانوراما 2021/04/11
...

  آرفند ديلاوير  
 
  ترجمة: مي اسماعيل
فرت «إيرمجارد كيون» الى المنفى بسبب أعمالها الادبية «المعادية للألمانية» وأنهت حياتها.. ولكن- هل فعلت ذلك؟ تمثلت الخدعة الأكبر التي لعبتها «كيون» بإقناع العالم أنها لم تعد موجودة. عاشت الروائية الألمانية المرموقة ذات الــ31 سنة حياة المنفى في فرنسا أو هولندا منذ عام 1936؛ بعدما شجب النازيون قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات رواياتها الأخيرة واسعة الشعبية، والتي طرحت موضوعات عن النساء المستقلات في العالم السفلي البائس لبرلين، واعتبروها «معادية للألمانية». 
كانت كيون في هولندا عام 1940 حينما بدأ الفاشيون احتلالهم لهذا البلد؛ وحينما لم يبق لها مكان تفر اليه، كما يبدو؛ فقد أنهت حياتها.. أو- على الأقل هذا ما نقلته صحيفة بريطانية خلال شهر آب من العام نفسه.
لكن القصة كانت كاذبة، فقد استخدمتها كيون كغطاء للعودة الى ألمانيا لمقابلة والديها. وحينما يكون الانسان بارعا في الاختفاء الى هذا الحد قد لا يمكنه مقاومة البقاء مختفيا الى أمد بعيد. عاشت كيون في الخفاء حتى السبعينات؛ عندما أعاد جيل جديد من القراء الألمان اكتشاف أعمالها. حينها كان شباب السبعينيات الألمان يحاول استيعاب ماضي أمتهم الرهيب؛ والذي كان آباؤهم متورطين فيه بشكل مباشر، لذا لا بد أن يكون رفض كيون القاطع الامتثال للتضييق النازي خلال الرايخ الثالث مصدر إلهام لهم. 
مؤخرا، قدمت الترجمات الانكليزية تلك الأعمال الى جمهور أوسع، وأعادت مكانة كيون لكونها روائية فريدة لا تعرف الخوف في ألمانيا ما بين الحربين العالميتين. كانت رواياتها عن الألمان الاعتياديين تهكمية بشكل كبير؛ (خاصة النساء الشابات اللواتي يحاولن شق طريقهن في العالم رغم الفاشية) ما لم تكن الجانب الفاشي الذي قُلِلَ من شأنه. جعلت خدعة اختفاء كيون، وسط فوضى ألمانيا ما بين الحربين وبعد الحرب؛ من محاولة ترتيب مسيرة حياتها نوعا من التحدي.   
 
احتقار النازيَّة
قدم «ميشيل هوفمان»؛ المترجم الحائز على جوائز؛ مؤخرا نسختين من روايات كيون؛ لكنه ما زال غير متأكد من قصة حياتها، يعترف قائلا: «الحقائق المحددة عن السيرة الذاتية لكيون ضعيفة للغاية» من المعروف أنها ولدت في برلين عام 1905، وبدأت حياتها المهنية بالتمثيل خلال العام 1921. ثم تحول اهتمامها لاحقا الى الكتابة؛ فنُشرت لها روايات «جيلجي، واحدة منّا-Gilgi, One of Us” عام 1931، ثم “فتاة الحرير الصناعي” عام 1932. حققت الروايتان مبيعات جيدة؛ فصارت كيون ثرية ومشهورة. وفي تقييم معاصر امتدحت صحيفة «نيويورك تايمز» عذوبة رواية جيلجي، وأنها تقف..» على نقيض مُبهج من الكتب التي يؤلفها الرجال»، لكن الشهرة جاءت لقاء ثمن؛ فرواية «فتاة الحرير الصناعي» تحكي قصة شابة في برلين المعاصرة (حينها)، تلجأ الى البغاء والسرقة خلال مسعاها لتكون نجمة ملهى. 
وصل النازيون الى السلطة خلال العام ذاته الذي نُشر فيه الكتاب، ورفضوه بقوة. وحسب ما كتب أحد النقاد فان كيون قدمت..» تشويهات مبتذلة ضد الأنوثة الألمانية»؛ وهو أمر غير متوافق تمامًا مع الأفكار النازية للنقاء. يُعلق هوفمان قائلا: «أي شيء يقارب المرأة المستقلة كان ملعونا عند النازيين». ووفقا لذلك وضعت كيون على اللائحة السوداء. يقول هوفمان مشيرا لمشاعرها تجاه النازيين: «كانت تحتقرهم؛ فهم بالنسبة لها حمقى يرتدون بزات رسمية ويصرخون ويتبخترون كالإوز في الأرجاء».
 
منتحرة حية
بعد وضعها على اللائحة السوداء ومحاولتها الفاشلة لمقاضاة شرطة الغستابو (لفقدانها مصدر دخلها بسبب مصادرتهم لأعمالها عام 1933)؛ فرت كيون من ألمانيا لتعيش حياة المغتربين، متنقلةً بين فرنسا وهولندا. وانضمت الى كُتّاب ألمان آخرين في المنفى؛ مثل- «توماس مان» و»ستيفان زويج» و»جوزيف روث»؛ وجميعهم اصطدموا بالرقابة النازية. ولكن على خلاف الروايات التاريخية التي أنتجها أولئك الرجال؛ استمرت أعمال كيون في المنفى بالتركيز على الواقعيات اليومية، وأصبحت سياسية بشكل أكثر وضوحًا؛ وإن كانت تحمل دائما حافات ساخرة. ففي رواية «ما بعد منتصف الليل- After Midnight” المنشورة عام 1937؛ تقع شابة في حب قريب لها، لتقوم عمتها بتخريب العلاقة من خلال إبلاغ الشرطة أن الشابة (بطلة الرواية) أهانت الزعيم النازي «هيرمان غورنغ».
تابعت كيون نشر اعمالها؛ لكن عدم الاستقرار في المنفى والرقابة النازية منعاها من الوصول الى القراء الألمان، وقلل اليقين المتزايد بحتمية وقوع  الحرب من جمهورها. كانت دائرة متابعيها الصغيرة؛ من المغتربين أمثالها والقراء الهولنديين؛ ضئيلة جدا مقارنة بما سبق. باعت روايتها «فتاة الحرير الصناعي» نحو خمسين ألف نسخة قبل منعها، ويقدر هوفمان أن رواياتها اللاحقة لم تصل إلا لنحو خمسة بالمئة من أولئك القراء. وعندما انتشرت الاخبار أنها قتلت نفسها لم يكن ذلك صعب التصديق. يمضي هوفمان قائلا: «كانت لا تزال في هولندا سنة 1940، ونُشر خبر انتحارها في جريدة بريطانية؛ فاستغلت هذا الأمر نوعا ما واستخرجت هوية مزورة وعادت الى والديها عبر الحدود في مقاطعة كولونيا ((الالمانية))». ما زالت التفاصيل الدقيقة للحدث غير واضحة؛ فسواء اتفقت كيون مع أحد المحررين عمدا لنشر خبر زائف، أم إنها استغلت فقط الخطأ الإداري بسبب الغزو النازي؛ فإن رواية موتها المفاجئ استمرت. وفيما بعد، بقيت كيفية عبورها للحدود بين هولندا وألمانيا أيضا من الألغاز (سواء بالحصول على تأشيرة دخول للبلد باستمالة ضابط نازي أو بالتزوير المباشر). وبغض النظر عن كل ذلك؛ فقد عادت كيون؛ التي صار اسمها المستعار «شارلوت ترالو» الى ألمانيا.   
«فرديناند ذو القلب الطيب»
تحمل عودة كيون القاهرة الى الوطن أوجه تشابه مع روايتها: «فرديناند، الرجل ذو القلب الطيب- Ferdinand, the Man with the Kind Heart”. فقد كتبت تلك الرواية في العام 1950، وهي قصة عن عسكري مُجنّد يعود الى كولونيا من معسكر الاسرى ليصارع حياة ما بعد الحرب. وباسلوب كيون المميز الساخر والمحبب؛ قدمت الرواية للقراء لمحة عن حياة الألمان وسط الركام وتقنين الحصص الغذائية؛ نساء يكتنزن الممتلكات للتسلية العبثية ورجال يحتفلون بإثبات براءتهم من النازية. من المفترض أن ألمانيا كانت تعود الى الحياة الطبيعية؛ لكن فرديناند، الراوي، لم يرد سوى العودة الى الحياة، ويبدو ذلك جليا من هذا المقتبس:  « عندما عدتُ الى ألمانيا من المعسكر، لم أكن مواطنا مدنيا بعد، لم أكن السيد تيمب، فرديناند تيمب. بل كنتُ عائدا، ولأكون صادقا؛ فأني لا احتمل كلمة «عائد»؛ فهي تبدو مثل اسم مكنسة تنظيف أو شيء آخر، شيء يتحكم به الآخرون، يعلق في الزوايا والحواشي، شيءٌ له رائحة المنزل ويجري الاعتناء به، منزل المشردين، منزل النساء الخاطئات، منزل المحكومين، منزل الاطفال المُهمَلين». 
على خلاف النازيين السابقين المهزومين أو مناهضي الفاشية المنتصرين مؤخرا؛ لا يرغب فرديناند أن يكون جزءا من الحياة السياسية في ألمانيا. ويعترف أنه خلال حقبة صعود هتلر لم يكن مشتركا لا في انقلابه ولا معارضته، بل سيق فقط الى الحرب. والآن وقد انتهت الحرب العالمية الثانية بات يرى الحرب الباردة تختمر؛ (كانت ألمانيا حينها مقسمة رسميا بين الشرق والغرب في العام 1949)؛ ولم يرغب ثانية أن يكون جزءًا منها، انه يرغب بأن يكون شخصا بدلا من كونه سياسيا، لكن هذا الاصرار على الاستقلالية يُخفي واقع الجرائم الجماعية عن الانظار؛ ليجري تجاهلها من قبل فرديناند وكيون معا. 
يقول هوفمان عن فرديناند: «انه ساحر ومشوش الذهن وسلبي، تحيره الحركات الاجتماعية والسياسية وتتركه غير مُبالٍ. إنه مثل ذرة الزعفران التي يسحبها المغناطيس مع كل برادة الحديد». 
 
ثناء متأخر
نُشرت رواية فرديناند لاحقا بالانكليزية للمرة الاولى؛ وهي رواية كيون الاخيرة، التي قضت الجزء الباقي من حياتها في كولونيا أو بقربها، وتوفيت في العام 1982. راوغتها شهرتها الأدبية السابقة حتى سبعينيات القرن الماضي؛ عندما أُعيد إصدار كتبها باللغة الألمانية. أما التراجم الانكليزية فقد بدأت بالصدور مطلع القرن الحالي؛ بعضها من ترجمة هوفمان واخرى من ترجمات زميلته الراحلة «أنثيا بيل»؛ ليعاود عالم الأدب ثناءه على كيون لكونها صوتا متفردا وسط كتاب ألمان ما بين الحربين. مأساة هذا الثناء المتأخر أن كيون واجهت في حياتها عقبات صارمة بسبب رواياتها؛ وبينما لم يفلت من النازيين الا قلة من الضحايا دون شك، فقد قالت كيون على لسانه بضعة أسطر لعلها وضعت لتلخيص العبثية التي وسمت حياتها المهنية: «ليس من السهل كتابة قصة حب في ألمانيا اليوم؛ فهناك الكثير من القوانين الصارمة أمامها».   
 
 
• مجلة سمثسونيان الأميركية