“كل هذه المحن التي تصيبنا هي إشارة إلى أنّ الأجواء ستهدأ، وستحدث الأمور بصورة مؤاتية، لأنه من غير المحتمل أنْ يكون الشر أو الخير دائمين، ولأنَّ الشر قد استمر طويلاً، فلا بُدّ للخير من أنْ يكون قريباً”.
هي صرخة أطلقها دون كيخوتة مخاطباً بها صديقه سانشو، قبل عقودٍ طويلة.. صرخة لا يزال دويها يصدح حتى اليوم، ويمكن اختصارها بسؤال مشروع اليوم: هل الإنسان خيّر أم شرير بالفطرة؟!.
لطالما أرقَّت الثنائيات الفلاسفة والمفكرين منذ بدء الخلق وحتى اليوم.. النور والظلمة، الحق والباطل، الظلم والعدل وغيرها.. ومن ضمنها ثنائيَّة الخير والشر المفطور عليهما الإنسان كما غيرهما من الثنائيات. هي ثنائيات، وعلينا الاعتراف بهذا، عمرها من عمر الخلق وبدء الخليقة.
ربما يصح القول إنَّ ما نحمله من أخلاق وقيم ومبادئ وأفكار بخيرها وشرها إنما نكسبه مما يحيط بنا، ومما نتعلمه، ومن الظروف التي وجدنا فيها، وعلى الرغم من وجود استثناءات عديدة، إلا أنّ الميل للجريمة مثلاً، لا بُدّ أنْ ينبني على واقع وبيئة وتربية ومناخ ووسط اجتماعيين!.. وهنا يبدو السؤال مشروعاً أيضاً: كيف يمكن أنْ تمنع طفلاً من التأثر والقيام بأفعال العنف بمختلف صورها وأنت تقدم له عبر شاشات التلفزيون كل ما تيسر وما لم يتيسر من أشكال وأدوات وطرق لممارسة القتل والتدمير النفسي والجسدي والمادي؟.. كيف ننأى به عن الشرور وعشرات الألعاب التي يمارسها، سواء عبر أجهزة الموبايل أو في الشوارع، وكلها تقوم على حمل السلاح والقتل والغنائم؟!.
يبدو أنَّ الشر بكل صوره يتحول إلى فعلٍ حياتي واقع غير مستهجن أو مرفوض، حين تنتج عشرات الأفلام الأميركيَّة وغيرها، وترسل إلى شعوب البلاد العربيَّة، بصيغتها التي لا تقدم إلا ذلك البطل السوبرمان المدجج بالسلاح والملطخ بالدماء، لتعتاد أعيننا، والأهم أعين أطفالنا، على هذه الصور التي نجحت حقاً في جعلنا نعتاد ونقبل بها ونتآلف معها كصورة ومشهد بصريّ!.. والكارثة، أنَّ العصر، هو عصر الصورة والمشهد البصري، بوصفهما أكبر وأكثر ما يؤثر في صنع المزاج العام، ولاحقاً، صنع ذهنية عدوانيَّة، قاسية، لا تعرف الشفقة ولا الرحمة.
من جانب آخر، وهذا هو المؤسف والمقلق، وإمعاناً في تكريس الذهنيَّة العدوانيَّة القاسية، لم تعد برامج الأطفال، إلا ما ندر، تدعو إلى الحب والسلام والإخاء ومساعدة المحتاج، إنما أصبحت تدعو للقتل والعنف وحمل السلاح، واستمراء مشهد الدماء والرعب، والانتشاء بالرغبة النهمة في ما يسمى وهماً: بالانتصار وهزيمة وقهر الآخر ـــــــ العدو ــــــ الذي يجب سحقه ومحوه عن ظهر الوجود!.. وعلى ضفة أخرى فإنَّ الأفلام الموجهة للكبار، وفي السياق المرسوم نفسه، غابت أو تكاد تغيب عنها الرومانسيَّة والحب والرقص والغناء، وحلت مكانها مشاهد المعارك والحروب، وصور الإرهاب والتدمير!.
هو انزياح وتحول لا يطمئن، ولا يمكن الركون إليه، في حال أردنا بناء أو الحفاظ على أنفسنا، وعلى الأجيال معافاة نفسياً وجسدياً، لكن ما الحل؟. وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق الذي لن يؤدي بنا كبشر إلا إلى التهلكة والهاوية؟!.
من يدري؟. ربما تصدق نبوءة واستشراف دون كيخوتة في هذا العالم المقلوب رأساً على عقب!.. هل سيكون الخير قريباً، ويطغى على الشر الذي عمّ النفوس والقلوب؟.. تلك آمالنا جميعاً، وإلى ذلك الحين.. سنبقى نربي الأمل!.