علي حسن الفواز
لا شيء أكثر وجعاً من الغياب، فهو نزعٌ للحميمية عن الجسد، وإيقاظ للفراغ، وإعلان قاس للوحدة، إذ تتحول التفاصيل الى علامات طائشة، واللغة الى رثاء واستدعاء، وهذا ما يجعل الحديث عن الغياب باعثاً عن المرارة والشجن..
مروان عادل حمزة الغائب الاستثنائي الذي ترك وراءه كثيراً من الحقائب والقصائد، وربما أودع تفاصيل أخرى في جوارير مكتبته بانتظار عودته العجولة. لقد كان يكره الغياب، ويتحدث عنه بقسوة دائماً، لأنه يعني المحو، وهذا ما يجعله أقل شعرية، وأكثر بعداً عن تلك الحميمية التي تعوّد أنْ يصنعها للآخرين...
مروان كائن شعري، يضحك، يحتج، يبكي، يرقص، يلبس قبعة، وكأنه يحتفل بالحياة، أو يتشهى الالتصاق بها دون أنْ يفكر بالمواعيد المؤجلة، أو التي لا تتحقق أبداً، لأنه يظن دائماً أنَّ الحياة هي لعبة ساحرة للمواعيد، حيث ننتظر من نُحب، ونلتقي عند حافة حكاية أو طاولة أو عند يوميات مهرجان أو حفل شعري لكي نكرر ضجيجنا بالحياة، أو نحتفل بها ونمنح أرواحنا جرعات عالية من الحب الذي كثيراً ما نشتكي من ضياعه وسط كثافات الحروب الصغيرة والكبيرة..
الحديث عن مروان حديث مفتوح عن قصيدة، أو عن حلمٍ، أو عن أغنية، أو رغبة صاخبة بالحياة، فهو يصطنع لهذا الحديث مسارات، وخيارات، طالما يجعله أكثر بهاءً، وأكثر تعبيراً عن حاجتنا العلنية والخفية للفرح، وأحياناً للفرح الذي يشبه تطهيراً من أدران يوميات جعلتنا أكثر تورية، وأكثر خوفاً، وهذا ما جعل مروان استثنائياً، وصالحاً لأنْ يمارس كل الوظائف الشعرية والاجتماعية، بما فيها وظيفة الحكّاء والمغني والراقص الذي يشبه زوربا اليوناني..
الكائن والقبعة..
صحيح أنَّ مروان عالق بالحياة وكأنها حُمّاه الشخصية، يشاطرها الكلام والبوح والهتاف والضحك، وصحيح أنه كائن أسري بامتياز، ويصطنع لهذه الكينونة وجوداً يغبطه عليه الآخرون، وصحيح بأنه بلا عقد انثربولوجية، وبلا أوهام ايديولوجية، وحتى بلا نزق ثوري، لكنه بالمقابل كان يقف عند لحظة رحيل ما، وكأنه يهجس بوجودٍ قلق وفاجع عند المحطات ليرفع قبعته للوداع، فالقبعة هي ايقونته، وسحره وعصاه، مثلما هي علامته في وسط عالم اختلطت فيه العلامات، حدّ أنه اصطنع لعالم القبعات متحفاً خاصاً، وربما فكّر يوماً بالإعلان عن احتفال ثقافي بالقبعات، وعلاقة القبعة بالقصيدة، ومدى صلاحيتها لأنْ تكون غطاءً، أو يافطة، أو استعارة..
القصيدة السائلة
ما يكتبه مروان يشبه لحظة دافقة، قصيدته تسيل بهدوء، تتجاوز المطبات، لا تتعثر، لا تتكئ على قاموس مجاور، إنها رهانه الشخصي على الحياة، لعبته في أنْ يكون موجوداً وحاضراً وشاهراً رؤاه للعالم، شغفه بمزاج عال، بتراكيب تتعاضد، أو تتشابك، لكنها تتدفق كتلة واحدة في نوبة من السيولة الباذخة التي تهب القارئ والمتلقي دعوة للانصات المتواصل..
خصوصية قصيدة مروان ليست بعيدة عن شخصيته، ولا عن لحظة وجوده الصاخب، وعناوين عشقه المتعددة، فهو يعشق الطيور، يُغني لها كثيراً، ربما يكتب لها قصائد خفية، مثلما يعشق الأمكنة والطرق، إذ هي خارطته ودليله، لكنه كان يعشق المقام العراقي بهوس، وأظنه تشهى أكثر من مرة في أنْ يكون مطرباً مقامياً رسمياً، ربما لأنَّ الشعر هو صنو المقام، فكلاهما يسيل الأسماع، ليكونا تعبيراً عن الأشواق العلنية، وعن الحميمية المشبوكة بالاصوات والتفاصيل..
الرحيل دون قبعة
أعرف أنَّ رثاءك موحش وصعب، وأنَّ الحديث عن فراغك هو أكثر مرارة، ولا أحسب أنَّ الأصدقاء سيودعونك دون قبعتك الساحرة، ودون أنْ يتلمسوا في قصيدتك جسداً نابضاً، وشوقاً يتدفق ويسيل، وينفر مثل شهوة الحمّى، وصوت المقام الذي يصطخب بك كلما توغلت كثيراً في الشجن.
قبعتك ستظل أثراً لقصيدتك الواقفة مثل شجرتك العائلية، والشاهدة على أنَّ صاحبها قد رفعها للوداع الأخير، وليقول للجميع: لقد حاولنا ترميم العالم بالشعر، وإصلاح الأخطاء الوجوديَّة بالموسيقى، ولملمة العزلات بالحب والتواصل بعيداً عن الصناعات الثقيلة للحروب والخرابات والحرائق التي حاول الآخرون فرضها على أحلامنا النبيلة.