هل يمكن للخوارزمية أن تمنع الانتحار

بانوراما 2021/05/01
...

  بينيديكت كاري  
  ترجمة: مي اسماعيل
 وبهاء سلمان 
اتجهت وزارة شؤون المحاربين القدامى الأميركية إلى التعلم الآلي للمساعدة بتحديد قدامى المحاربين المعرضين لخطر الانتحار، خلال زيارة الى عيادة لقدامى المحاربين في نيويورك؛ اكتشف “باري” (جندي سابق في فيتنام نال أوسمة) عن أنه ينتمي الى مجموعة حصرية؛ فوفقا لتقنية خوارزمية معززة بالذكاء الصناعي كان باري واحدا من بضع مئات من المرضى في أرجاء البلد (من مجموع كلي يبلغ نحو ستة ملايين)، معرضين لخطر الانتحار الوشيك. لم يكن ذلك التصنيف بالمفاجأة التامة له؛ فقد حاول باري (الذي تعرض لجراح بليغة عام 1968 أثناء هجوم في فيتنام) الانتحار مرتين، وعن هذا يقول موظف البريد المتقاعد: “لا أحب هذه الأفكار المستقاة من الحواسيب. لكنني فكرت: لا بأس؛ إذا كان هذا سيعني مزيدا من الدعم لي”. 
راقب مسؤولو الصحة لأكثر من عقد بلا جدوى ارتفاعا مضطردا بمعدلات الانتحار بنسبة ثلاثين بالمئة منذ العام 2000؛ وكانت النسبة بين قدامى المحاربين أعلى منها بين عامة السكان. تحدى نمط الارتفاع هذا التفسيرات البسيطة، وقاد لاستخدام التحليل الأعمى المتعلق بالتعلم الآلي، أو الخوارزميات المدعومة بالذكاء الاصطناعي؛ والتي تبحث في السجلات الطبية وغيرها عن أنماط تاريخية مرتبطة بالانتحار أو محاولات الانتحار بين اعداد المرضى الكبيرة. كان الاطباء عادة يقيسون مخاطر قيام المرضى بالانتحار عبر دراسة تشخيصات الصحة النفسية السابقة ووقائع اساءة استخدام العقاقير؛ والاستخلاص من تجاربهم وغريزتهم الطبية. لكن تلك التقييمات كانت قاصرة عن التنبؤ، في حين يمكن لبرامج الذكاء الصناعي تقصي عوامل أكثر بكثير؛ مثل الوظيفة والحالة الاجتماعية والعلل الجسدية وتاريخ الوصفات الطبية والتردد على المستشفى. تلك الخوارزميات كأنها صناديق سوداء؛ فهي تشير الى أن أحدهم معرض لخطر الانتحار بشكل كبير دون تقديم أي مبرر. لكن الذكاء الانساني ليس بالضرورة أفضل لأداء المهمة؛ كما تقول “ماريان غودمان” الطبيبة النفسية في شبكة الخدمة المتكاملة للمحاربين القدامى بنيويورك: “لا يمكننا الاعتماد على الخبراء الصحيين المُدرَبين لكشف الاشخاص الذين هم قيد الخطر؛ فنحن لسنا جيدين بذلك”. 
 
الهدف: انقاذ  الارواح
إن توظيف الذكاء الصناعي في هذا المجال ليس بالأمر الجديد؛ فقد بدأ الباحثون بجمع البيانات عن حالات الانتحار عبر نظام الرعاية الصحية في بريطانيا منذ عام 1996، كما طور الجيش الاميركي ومستشفيات “كايزر بيرماننت” و”ماساشوستس العام” كلا على حدة خوارزميات تهدف للتنبؤ بمخاطر الانتحار. لكن برنامج قدامى المحاربين “VA” المسمى “الوصول الى المحارب- Reach Vet”، والذي صنّف الجندي السابق باري (69 سنة) ضمن المخاطرة العالية؛ هو أول برنامج من الانظمة الاميركية الجديدة المستخدم في ممارسات العلاج السريري اليومية، ويخضع للمراقبة الدقيقة. نتائج أداء تلك الانظمة (إذا كانت ستنقذ الارواح وبأي ثمن، اجتماعيا واقتصاديا)؛ سيُسهم في تقرير ما اذا كان الطب الرقمي يمكن أن يقدم ما يعد به. يقول “أليكس جون لندن”؛ مدير مركز السلوك والسياسات بجامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرغ: “انه اختبار حاسم لأنظمة البيانات الضخمة هذه؛ فاذا أظهرت معدلا مرتفعا من النتائج الايجابية الخاطئة (على سبيل المثال)، سيمثل هذا أن عددا كبيرا من الاشخاص ضمن احتمالية الانتحار المرتفعة؛ وهم ليسوا كذلك. وستكون النتائج المترتبة على هذا مؤذية بالفعل على المدى البعيد. نحن بحاجة للتحقُق أن مؤشرات الخطورة تقودنا لأشخاص سيتلقون رعاية أفضل أو سيتعافون؛ لا يُعاقبون بشكل ما”.
تُحدّث خوارزمية “المحاربين القدامى” بصورة مستمرة، لتقدم شهريا قائمة جديدة لقدامى المحاربين ممن يقعون ضمن منطقة الخطورة العالية. تبقى أسماء بعض أولئك الافراد في القائمة لعدة أشهر، بينما يغادرها آخرون. وحين يجري تأشير اسم أحدهم؛ يظهر اسمه (أو اسمها) على شاشة الحاسوب في الفرع المحلي لعيادة رعاية المحاربين؛ الذين يتصلون به/ بها ويرتبون موعدا للقاء. هنا يشرح طبيب للجندي السابق معنى قائمة المخاطر العالية؛ فهي علامة تحذير وليست تشخيصا. ويجري التأكد أن للشخص المعني خطة سلامة ضد الانتحار؛ مثلا- أن يجري خزن أي سلاح ناري بصورة منفصلة وبعيدة عن ذخيرته، وأن تُعرض صور الأحبة في مكان ظاهر بصورة مستمرة، وأن تكون أرقام هواتف الأصدقاء وموظفي الرعاية الاجتماعية وخطوط الانتحار الساخنة في متناول اليد.
 
الضغط النفسي للمعارك
يقول الأطباء الذين عملوا ضمن برنامج “الوصول الى المحارب” إن النظام يقدم نتائج غير متوقعة؛ لكل من الذين يتم تحديدهم أو يستبعدهم. بالنسبة لمعالجيه النفسيين كان “كريس” (36 سنة) ممن توقعوا أن يشير اليهم البرنامج. خدم كريس في العراق وأفغانستان ضمن سلاح مشاة البحرية، وشهد معارك في ثلاث من جولات عمله الأربع. في عام 2008 تعرض ومجموعته لانفجار عبوة ناسفة جرحت بعضهم وخرج هو منها دون خدش. بعد الهجوم بات يعاني كوابيس ملحة، وشُخصّت حالته بمعاناة إجهاد ما بعد الصدمة، وكانت له عام 2016 تجربة قاربت الانتحار بسلاحه الناري الشخصي، وعنه يقول: “أنا أحب المسدسات وأعدها غطاء أمان. لكنني فقدت الوعي، ثم وجدت نفسي راقدا في الماء البارد بحوض الاستحمام والمسدس بجانبي. وكان خاليا من الذخيرة على أي حال”. تعد محاولة الانتحار السابقة العامل الأقوى لتشخيص الخطر المستقبلي؛ خاصة باستعمال السلاح الناري. ورغم ذلك لم يرد اسم كريس في قائمة عالي الخطورة حسب الخوارزمية؛ وهو لا يعتقد أن اسمه سيظهر فيها أبدا، قائلا: “في ذلك الحين سنة 2016 كنتُ أدرس لنيل شهادة الماجستير وأعمل بدوام كامل، كان أولادنا أطفالا، ولم أكن أنام الا بضع ساعات ليلا؛ إذا استطعت. كان وقتا عصيبا؛ فقد كنتُ محروما من النوم دائما. لم أكن أبدا أميل للانتحار، ولم تكن لي أفكار انتحارية.. بل كان أمرا اندفاعيا تماما”.
يبدو أن خوارزمية الذكاء الصناعي تركز أيضا على عوامل خطورة اخرى؛ كما تقول غودمان: “النواحي التي يلتقطها البرنامج لا تشبه بالضرورة ما أفكر به أنا؛ لذا بدأت التحليلات تغير فهمنا لالتقاط الاشخاص المعرضين للخطر الأقوى”. جرى بناء الخوارزمية على مبدأ تحليل آلاف حالات الانتحار السابقة في بيانات مؤسسات المحاربين القدامى منذ عام 2008. يخلط الحاسوب مجموعات المعلومات المستقاة من التقارير الطبية ويقوم بتدويرها؛ وهي عن العمر والحالة الاجتماعية والتشخيص والوصفات الطبية؛ ليستقر على العوامل التي تربط بمجموعها (وبقوة) مع مخاطر الانتحار. تدمج الخوارزمية 61 عاملا؛ منها عوامل ليست واضحة؛ مثل- التهاب المفاصل واستخدام أدوية تخفيض الكولسترول لتنتج درجة مُركّبة لكل شخص. ويتم تصنيف الاشخاص الذين يحققون أعلى الدرجات (نسبة واحد بالألف) في خانة الخطورة العالية. يقول “جون مكارثي” مدير البيانات والمراقبة في قسم منع الانتحار بمكتب الصحة العقلية ومنع الانتحار: “يكون عامل الخطورة للاشخاص في موقع نسبة واحد بالألف مُركّزا بنحو أربعين مرة؛ أي أنهم معرضون للموت انتحارا أربعين مرة أكثر” من الشخص الاعتيادي. 
 
توجيه أفضل للموارد
تقول “بريدجيت ماتارازو” مديرة الخدمات السريرية في مركز روكي ماونتن لتعليم أبحاث الأمراض العقلية والمركز السريري للوقاية من انتحار المخضرمين عن هذه الخوارزمية: “أعتقد أنها لا تكشف عن بعض الاشخاص الذين كانوا قيد المراقبة فحسب؛ بل آخرون لم يكونوا كذلك”. 
في أواخر سنة 2018 قدم فريق بقيادة مكارثي أولى النتائج من نظام البحث؛ وعلى امتداد ستة أشهر ضاعف قدامى الجنود المصنفين ضمن مواقع الخطر العالية استفادتهم من خدمات الخوارزمية. وبالمقابل، لدى مجموعة مُقارنة اخرى جرى تتبعها لمدة ستة أشهر قبل استخدام الخوارزمية؛ ظل استخدام خدمات المحاربين القدامى كما هو تقريبا. كذلك حققت المجموعة الاولى معدل وفيات أقل خلال الفترة الزمنية ذاتها؛ رغم انه كان معدلا عاما للوفيات لأي سبب. ولم يكتشف التحليل (في تلك المرحلة على الاقل) تغيرا في ((اساليب)) الانتحار؛ وهو ما يعلق عليه مكارثي قائلا: “هذا أمر مُشجّع؛ ولكن لدينا الكثير لنفعله اذا أردنا انجاز التأثير المطلوب”. يُعلّق “رونالد كيسلر” بروفسور الرعاية الصحية والسياسات بكلية طب هارفارد قائلا: “الآن يمكن لهذا البرنامج وغيره توقع الافراد في درجات الخطورة العالية؛ لكنه لا يقول لنا كيف يمكننا الاستفادة من تلك المعلومات. واذا لم نعرف ذلك لن نعرف أين نضع مواردنا”. ولكن بالنسبة للأطباء الذين يستعملونه؛ دفع هذا النظام لإعادة التفكير في كيفية تقييم المخاطر. أما الافراد الذين ظهرت اسماؤهم في نطاق الخطورة العالي وفق الخوارزمية، فقد كانت تجربة تصنيفهم والاتصال بهم شيئا لا يمكن نسيانه بسهولة. يقول باري (جندي فيتنام السابق) أنه في موقف جيد نسبيا الآن؛ إذ احس بالتقارب مع أولاده الكبار وبات يتلقى رعاية منتظمة من مراكز الجنود القدامى؛ ضمن مجموعات العلاج الفردي والجماعي والأدوية لنوبات الذهان المتكررة. لكنه يعي أيضا السهولة التي قد تنقلب فيها الامور الى الأسوأ، قائلا: “أعرف أنني أتحدث أحيانا مع نفسي ليلا وأسمعُ أصواتا. تعمل الادوية جيدا عندي، لكنها تفشل أحيانا، مما يُثير غضب الاصوات في رأسي؛ وهذا ليس جيدا لي..”. 
 
صحيفة نيويورك تايمز الاميركية