وجدان عبدالعزيز
حينما تكون إرادة إقامة مشروع المصالحة والتسامح، كمشروع مجتمعي طويل الأمد تعني إنجاز توافق وطني بين مختلف مكونات الإطار الحضاري للمجتمع حول خطة شمولية ومتكاملة، محددة، ودقيقة، تسترشد بالمبادئ الأساسيَّة المستخلصة من تجارب فض النزاعات بالطرق الهادئة، مقابل هذا اجتثاث مرض الاستبداد، الذي ترسخ عبر مسار تاريخي وتغلغل في ذهنية الطبقة السياسية الحاكمة، وحتى النخب السياسية التي تسانده، فهو مرض اجتماعي توزع في مستويات: مستوى البنى المؤسسية الفوقية ونظام الحكم جزء منها، ومؤسسات تحتية تمثلها مؤسسات المجتمع المدني، وانتهاءً بسلوكية بعض أفراد المجتمع، وغالباً ما نجد أنَّ هذه التراكيب الهيكلية تشكل في مجملها إشكالية استبدادية على صعيد المجتمع برمته، وبعبارة أخرى إنه يصعب معالجة الاستبداد عند مستوى معين من دون معالجاته بالمستويات الأخرى بالوقت نفسه، وعليه يمكن تمثيل محصلة هذه الظاهرة بمصفوفة ذات متغيرات متداخلة في ما بين المستويات المختلفة من جانب، ومترابطة من حيث التراكم السلوكي من جانب آخر.. هذا الأمر صار بديهة تاريخية في المجتمع العربي والعراقي.. علة ذلك جاءت من خلال تعرض المجتمعات العربية للغزوات الاجنبية حتى الاستعمار الحديث المتمثل بمعاهدة سايكس بيكو عام 1916، وكانت بمثابة اتفاق وتفاهم سري بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى.
والتساؤلات الثقافية المطروحة.. كيف التخلص من ثقافة الاستبداد والدكتاتورية من الذهنية العراقية؟، وذلك باستبدالها بالثقافة الديمقراطية ولغة الحوار وقبول الآخر، وهذا الامر يتطلب إنشاء مؤسسات ثقافيَّة ترسخ ثقافة الديمقراطية، باعتبار الديمقراطية تقوم بالأساس على سيادة القانون ومباشرة حقوق الإنسان ولا نترك أي أحد يعلو على القانون والجميع متساوون أمامه ويتعين بالأصل على المؤسسات الديمقراطية، أنْ تقوم بدور الوسيط في تخفيض حدة التوتر والمحافظة على التوازن بين التنوع والتوحد وبين الفردي والجماعي، وذلك من أجل دعم الترابط والتضامن على الصعيد الاجتماعي، فالديمقراطية التي يتطلع لها الإنسان الحر يجب أنْ تقوم على حق كل فرد في المشاركة في إدارة الشؤون العامة والعنصر الرئيس لها يتمثل في إجراء انتخابات حرة ونزيهة على فترات منتظمة، يعبر فيها الشعب عن إرادته ويقع على عاتق السلطة ضمان حصول مواطنيها على حقوقهم المدنية والثقافية والسياسية والاجتماعية، هذا الأمر إنْ ترسخ عبر بناء مؤسسات قانونية سيكون كفيلاً في القضاء على الثقافات المريضة، ومنها ثقافة الاستبداد والدكتاتورية، التي ترسخت عبر الصراع الدائر منذ نصف قرن بين الوحدة والتجزئة، والحوار بين الأصالة والمعاصرة، وكذلك بين الأصولية والحداثة، فضلاً عن الجدال الدائر في أوساط مختلفة بين الإسلام والقومية، هذه الثنائيات وأخرى غيرها ولا سيما تلك التي في داخلها مثل الاتجاهات المذهبية في الإسلام، وتعدد الإثنيات القومية، قد تسود جميعها أو بعضٌ منها في مجتمع واحد. وفي ظل نمط التطور والتنمية السائد في المجتمعات المذكورة، فإنَّ ذلك قد يقود إلى تغليب فئة دون أخرى ويدفعها تعصبها في ظل تواضع الوعي إلى ممارسة الاستبداد تجاه الآخر.. إذاً وعبر منظومة ثقافية تقوم على الحوار ومحاولة القضاء على هكذا ثقافات من خلال آليات ديمقراطية ومؤسسات مدنية قائمة على أسس دستورية وقانونية، لهي كفيلة في القضاء على ثقافة الاستبداد والدكتاتورية والاثار الصدامية.
وعليه فإنَّ المصالحة كمشروع مجتمعي طويل الأمد تعني إنجاز توافق وطني بين مختلف مكونات الإطار الحضاري للمجتمع حول خطة شمولية ومتكاملة، محددة، ودقيقة، تسترشد بالمبادئ الأساسية المستخلصة من تجارب فض النزاعات بالطرق الهادئة عبر ترسيخ المبادئ الدستورية والقانونية ورفع مستوى الدالة الوطنية.