الساعات الأخيرة في حياة أمير المؤمنين علي (ع)

منصة 2021/05/03
...

 مرتضى صلاح
تقول كتب التاريخ إنه في إحدى ليالي شهر رمضان لعام أربعين للهجرة، وهي ليلة التاسع عشر منه جلس أمير المؤمنين علي (ع) يحمد الله ويثني عليه وقام إلى صلاته فصلى ولم يزل راكعاً وساجداً ومتضرعاً إلى الله سبحانه، ويكثر الدخول والخروج ينظر إلى السماء وهو قلق يتململ، ثم قرأ سورة (يس) حتى ختمها، ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً، ونهض قائماً وهو يقول: (اللهم بارك لنا في لقائك) ويكثر من قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وكان (عليه السلام) قد رأى في هذه الليلة رؤيا حدّثت بها ابنته أم كلثوم، حيث قال لأولاده: (إني رأيت الساعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك وانك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان). 
 
 قال فلما سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء فأقسم عليهم بالسكوت، ثم أقبل يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ثم صلى حتى ذهب بعض الليل، ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وهو يقول: (والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها). 
وما أن لاح وقت الأذان حتى توضأ ونزل إلى الدار وكان في الدار أوز أهدي إلى الحسين (ع)، فلما نزل خرجن وراءه، ورفرفن وصحن في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (ع): (لا إله إلاّ الله صوارخ تتبعها نوائح)، فلما وصل إلى الباب وعالجه ليفتحه تعلق الباب بمئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول: 
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا..  ولا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا 
ولا تغتر بالدهر وان كان يواتيكا..  كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا 
ثم قال: (أللهم بارك لنا في الموت، أللهم بارك لي في لقائك)، وسار أمير المؤمنين (ع) حتى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلى في المسجد وحده، وكان في المسجد ثلاثة رجال أحدهم اللعين ابن ملجم قاتل الإمام، فلما أذّن (عليه السلام) ونزل من المئذنة جعل يسبح الله ويقدسه ويكبره واتجه إلى محرابه وقام يصلي فتحرك، إذ ذاك ابن ملجم وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام (ع) يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف، ثم ضربه على رأسه الشريف، فوقع الإمام (ع) على وجهه ولم يتأوه بل قال: (بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله)، ثم صاح: (قتلني ابن ملجم، قتلني ابن اليهودية فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة). 
وأحاط الناس بأمير المؤمنين (ع) في محرابه وهو يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها. ثم تلا قوله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
ثم إن بعض أصحاب أمير المؤمنين (ع) قبضوا على ابن ملجم وساقوه إلى موضع للإمام فقال له الحسن (ع): (هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك)، ففتح أمير المؤمنين (ع) عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له بضعف وانكسار وصوت رأفة ورحمة: (يا هذا لقد جئت عظيماً وخطباً جسيماً أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء)، ثم التفت (ع) إلى ولده الحسن (ع) وقال له: (إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً)، فقال له الحسن (ع): (يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟!) فقال له: (نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدماً، ولا تغل له يداً، فإن أنا متّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً).   
ومن وصيته عليه السلام لولديه الحسن والحسين (ع): (أوصيكما بتقوى الله وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للآخرة وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جد كما (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام، الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا في حضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا انه سيورثهم والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتبادل، وإياكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم). 
  وبدأ يغمى على الإمام (ع) ساعة بعد ساعة لتزايد ولوج السم في جسده الشريف، وقد أُغمي عليه ساعة وأفاق، فأدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: (أستودعكم الله جميعاً سددكم الله جميعاً، حفظكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله وكفى بالله خليفة). 
ثم قال: (وعليكم السلام يا رسل ربي)، وقال: (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ.. إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَالّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ، وعرق جبينه وهو يذكر الله كثيراً، وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة وأغمض عينيه ومدّ رجليه ويديه وقال: (أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، ثم فاضت روحه الطاهرة (ع)، وكان ذلك في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان أي بعد ليلتين من إصابته بضربة اللعين ابن 
ملجم. 
وبذلك انتهت حياة خير خلق الله كلهم بعد الرسول (ص) بعد عمر قضاه في الجهاد في سبيل الله والزهد وإقامة العدل وكان مثالاً للنبل والشجاعة والطهارة والعدل والخير ورمزاً من رموز الكمال البشري على مر
 التاريخ.