بريطانيا تميل لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ

بانوراما 2021/05/03
...

 باتريك وينتور
 ترجمة: خالد قاسم
خلال فترة ثلاث ساعات يوم 23 آذار 1993، ضربت الانفجارات مدينة مومباي، فقد انفجرت ثلاث عشرة قنبلة لتقتل 260 شخصا وتجرح 700 آخرين. كان معظم الضحايا من الهندوس، تم استهدافهم ثأرا لمقتل ما يقارب 1100 مسلم سقطوا بوحشية خلال صراع وأعمال شغب اجتاحت المدينة بين الطرفين قبل ذلك بأشهر قليلة.
يركز بوريس جونسون وقادة بحرية بلاده على منطقة تمتد عبر مجموعة من أهم الممرات المائية عالميا شرقا من الهند الى اليابان وجنوبا من الصين الى أستراليا، مع انطلاق بريطانيا دوليا بعد 47 سنة من الانغلاق داخل الخزانة الحمائية للاتحاد الأوروبي. لكن آخرين يحذرون أن جونسون ينغمس بالغطرسة وخيال امبريالي خطير عسكريا.
 
عموما، الشعب البريطاني غير مستعد لما سيأتي. وعندما سألت «مجموعة السياسة الخارجية البريطانية» البريطانيين عن دعمهم لمشاركة بريطانية أكبر في تلك المنطقة، قال أكثر من النصف أنهم لا يعلمون أو يعارضون التحول.
يعد هذا الجهل أمرا طبيعيا، فبريطانيا لا تمتلك موارد كبيرة هناك. وجزيرة دييغو غارسيا بريطانيا الملكية لكنها مؤجرة للأميركيين، وهناك مركز تدريب في أدغال بروناي، وبعض نقاط الاتصال مثل رصيف سمباوانغ في سنغافورة. وجرى تغيير تصميم ميناء دقم العماني بأموال بريطانية لاستقبال حاملات الطائرات. لكن القوى الاقتصادية والسياسية تسحب لندن الى تلك المنطقة، وليست كلها ذات طابع استعماري. وقدّم عدة وزراء خارجية مثل ألمانيا وفرنسا ستراتيجيات خاصة بالمحيط الهادئ، وبريطانيا بعد خروجها من السوق الأوروبية المشتركة بحاجة لمياه تجارية جديدة تصطاد فيها السمك، وفي الوقت نفسه يتطلب صعود الصين أن تعطي بريطانيا ردة فعل أكثر تماسكا مما عرضه الوزراء حتى الآن.
 
نوايا ستراتيجيَّة
الهدف غير المعلن لكنه مفهوم جيدا لفكرة السياسة الخارجية في تلك المنطقة هو مواجهة الديمقراطيات البحرية للصين والتمسك بقانون البحار. ويرى البعض أن هذا الهدف يجعل التحول نحو المحيطين الهندي والهادئ أكثر إثارة للاهتمام من الناحية الجيوسياسية بسبب قوة الصين.
مارس «ألكساندر داونر» المندوب السامي الأسترالي السابق لدى بريطانيا دورا كبيرا في تقرير مركز الدراسات اليميني «بوليسي إكستشينج» والذي أكد أهمية تلك المنطقة، ووصف مجاريها المائية، أي المحيطين الهندي والهادئ، الى جانب البحار الداخلية والخلجان الواسعة بانها «الممرات الموحدة الحيوية للاقتصاد العالمي، وتربط أوروبا ونصف العالم الغربي بمعامل العالم».
ذكر التقرير أن المنطقة تعادل نحو نصف الانتاج الاقتصادي العالمي وأكثر من نصف سكان العالم، وتحوي أكبر دولتين عالميا من حيث السكان، الصين والهند، وثاني وثالث أكبر اقتصادين عالميا، الصين واليابان، وأكبر ديمقراطية عالميا أي الهند، واثنين من أكبر تجمعات المسلمين السكانية عالميا أي الهند وإندونيسيا. وأضاف أن خطوطها البحرية هي «الأكثر خطورة عالميا» وتشمل مضيق ملقا الرابط بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي.
لكن ما الذي تتضمنه هذه الإمالة البريطانية نحو تلك المنطقة، وكيف يمكن تثبيتها بأفضل شكل ممكن؟ يخشى البعض أن تلزم بريطانيا نفسها بالمشروع الأميركي والاحتواء العسكري للصين، وهذا يهدد بسحب بريطانيا الى انفصال اقتصادي عن الصين، اعتمادا على تطور النقاش السياسي في واشنطن بشأن قضايا مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي. 
يشعر جو جونسون، وزير الجامعات السابق وشقيق رئيس الوزراء البريطاني، بالخوف من الحديث عن مواجهة مع الصين أو انفصال اقتصادي عنها، وأضاف: «لن تكون هناك بريطانيا عالمية من دون التعامل مع الصين».
لكن أين يقف رئيس الوزراء بهذا النقاش؟ في خطابه بمؤتمر ميونيخ الأمني خلال شباط الماضي، وهو أول خطاب سياسة خارجية بعد خروج بريطانيا من الترتيبات الانتقالية مع الإتحاد الأوروبي يوم 31 كانون الأول، اذ أكد جونسون «نجاح بريطانيا العالمية يعتمد على أمن موطننا واستقرار منطقة اليورو المحيط الأطلسي» وأبقى الناتو مرتكزا لبلاده، لكنه ألمح أيضا أن بريطانيا تسعى شرقا وضرورة إرسال رسالة قوية للصين.
سلط جونسون الضوء على كيفية انتشار حاملة الطائرات البريطانية «كوين اليزابيث» والأسطول المرافق لها خلال آيار في أول رحلة الى المحيط الهندي بالتنسيق مع أميركا. ومع أن تلك الحاملة استعيدت من الخدمة عام 2007، لكن جونسون يسوقها باعتبارها «تجسيد بريطانيا العالمية الحديثة». وجرى تقديمها كسفارة عائمة، ومصدر لفرض القوة ومدافعة عن طرق التجارة المفتوحة. 
 
استفزاز عسكري
أكد الضابط البحري الكبير الأدميرال توني راداكين أهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمستقبل بلاده بقوله: «اذا أخذت انسحابنا من الاتحاد الأوروبي كجزء من خروجنا نحو العالم، فمن الطبيعي جدا عند بحثنا عن زيادة التجارة والازدهار وإظهار قيادة بريطانيا عالميا وتعزيز بعض الروابط القديمة، فإن تلك المنطقة محور مذهل لتقول بريطانيا كلمتها فيه.. حيث تمرّ التجارة والقوات البحرية».
لم يشر راداكين مباشرة الى الصين، بل حافظ على الرواية المؤدبة بأن الوزراء لم يقرروا بعد اذا كانت تلك القوة المكونة من مدمرتين طراز 45 وغواصة ومدمرتين من طراز 43، ستجرؤ على دخول المياه الدولية لبحر الصين الجنوبي. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، فعندما أعلن وزير الدفاع السابق غيفين ويليامسون في شباط 2019 توجه الحاملة اليزابيث الى بحر الصين الجنوبي، والتحضر لاستخدام القوة القاتلة للدفاع عن الطرق المائية الحرة والمفتوحة، كان رد الصين سحب دعوتها لوزير الخزانة فيليب هاموند لزيارتها بهدف اجراء محادثات تجارية. 
يتوقع توم شارب، وهو قائد بحري أسبق ومتحدث سابق لوزارة الدفاع، كيفية رد الصين عند ظهور أسطول بلاده هناك: «أضمن تحليق مقاتلاتهم فوق السفن، هذا أمر مفروغ منه. سيقتربون ويختبرون ردود فعلنا، ستقترب سفنهم الحربية ويحصل تبادل بعدة أجهزة لاسلكي وهو جزء من عملية الكر والفر.
يقول المحلل العسكري فيرل ناونز المتخصص بشؤون تلك المنطقة: «سمعنا أن بريطانيا تريد دعم النظام الدولي المبني على القوانين. لكن ليس من الواضح دائما ما الذي يستلزمه ذلك، وقد يعني بالنسبة لدول المحيطين الهندي والهادئ أي شيء، مثلا العمل عبر منظمات اقليمية متعددة الجنسية وبناء القدرات، وصولا الى مناورات بحرية وحرية عمليات الملاحة، أو حتى بعض أشكال الانتشار الهجومي في المنطقة».
أبدت الصين امتعاضها من زيارة مجموعة حاملة الطائرات البريطانية، خصوصا أن فرنسا وألمانيا تنشران أيضا سفنا حربية كبيرة هناك خلال العام الحالي، ويتهم إعلام الدولة الصيني القوى الأوروبية «بالمشاركة في الحيل الأميركية المعادية للصين».
من جهتها ذكرت صحيفة تشاينا ديلي التابعة للحزب الشيوعي الصيني أن بريطانيا تأمل استفزاز الدول المحايدة في المنطقة للوقوف مع الغرب ضد الصين، بينما في الواقع لا تريد تلك الدول أن تجبر على الوقوف مع جانب معين في صراع قوى كبير.
 
كنز اقتصادي
بكين غير راضية أيضا على رغبة جونسون بتحويل مجموعة السبع الى تحالف 10 ديمقراطيات بدعوته كوريا الجنوبية والهند وأستراليا. وترى بكين تهديدا بأي تلميح لانضمام لندن الى التحالف الأمني الرباعي بين اليابان وأستراليا وأميركا والهند.
يقول روري ميدكالف رئيس كلية الأمن القومي في الجامعة الوطنية الأسترالية، أن من واجب بريطانيا التركيز على المشاركة الاقتصادية بقدر الاهتمام نفسه بالجانب العسكري. ويظهر ذلك فعليا في أن الجائزة الكبرى بستراتيجية بريطانيا للمحيطين الهندي والهادئ هي الوصول للأسواق الكبيرة وعضوية شراكة المحيط الهادئ للاتفاقية الشاملة والتقدمية والتي تضم 11 دولة وتشكلت عام 2018. وجرى تصوير هذه المجموعة بالثقل الموازن للصين اقليميا، وأنقذت من شراكة المحيط الهادئ التي غادرها دونالد ترامب عام 2017.
لكن بالنظر للخارطة يبدو غريبا انضمام بريطانيا لتلك المجموعة. وتعد وزيرة التجارة الدولية البريطانية ليز تروس مؤيدة بقوة لحملة التصدير الى منطقة الهادئ، وتقول إنها تعطي بلادها منفذا الى ناتج محلي اجمالي قدره 9 ترليونات جنيها من دون الحاجة للانضمام الى ناد سياسي شبيه بالاتحاد الأوروبي.
تشكل المجموعة سوقا قوامها 500 مليون شخص ونحو 14 بالمئة من اقتصاد العالم، ويشعر معظم أعضائها بالحماسة، خصوصا اليابان بوصفها أكبر حلفاء بريطانيا في هذا المشروع، وتوصف عادة بالقائد الهادئ لتلك المنطقة. ومن المتوقع صدور قرار أولي في آيار مع اكتساب العضوية العام المقبل. يختلف بعض الخبراء مع رأي الوزيرة، ومنهم إيلي داركين وهي مستشارة تجارية، اذ تشير الى أن حصة المجموعة من تجارة بريطانيا عام 2019 كانت 8 بالمئة تقريبا وغالبيتها العظمى مع أربع دول وهي كندا وأستراليا وسنغافورة واليابان. وتضيف أن المنفعة الحقيقية قد تقع باتفاقيات جانبية على مواضيع مثل الاقتصاد الرقمي ومواءمة التجارة الإلكترونية وجعل اطلاقها أسهل على الشركات. أما القطعة الأخرى في لغز الوزيرة تروس هو اتفاق تجارة حرة مع الهند، وهذا ما سعى اليه عدة مفاوضين، ولم يتحقق. وتفعل لندن كل شيء لكسب ود دلهي، وشاركت مؤخرا برعاية مذكرة للأمم المتحدة استنكرت فشل باكستان بمنع تمويل الارهاب. لكن هل بريطانيا مستعدة لمنح الهند والنمور الآسيوية الأخرى حرية دخول الأسواق البريطانية، اضافة الى عشرات آلاف تأشيرات الدخول؟ وتعكس هنا سياسة المحيطين الهندي والهادئ معضلة أعمق بقلب تلك المراجعة والتي فهمها جو جونسون: « تمتلك الحكومة فكرتين كبيرتين، أجندة الارتقاء وأجندة بريطانيا العالمية، والتحدي هو كيف تضمن الحكومة أنهما لن تقوضا بعضهما البعض بل تعملان معا لدعم بعضهما البعض».