فانيسا أيجو
ترجمة: جمال جمعة
هل الموسيقى والموت الأسود، أحد تفشيات الطاعون الدبلي، مرتبطان بطريقة ما؟ توسعت الموسيقى في اتجاهات جديدة مع انهيار المجتمع الأوروبي في منتصف القرن الرابع عشر في مواجهة الطاعون. الملحنون الذين نجوا من الانمساخ خرجوا منه مهتمين باكتشاف أشكال موسيقية عِلمانيّة «غير دينية» جديدة. لكن قبل أن يتمكنوا من فعل ذلك، كان عليهم أن يخرجوا أحياء، وكل واحد منهم كانت لديه طريقة فريدة للتعامل مع هذه المشكلة. وفي حين ان بعض الناس بحث بيأس عن ملاذ في مكان لا يستطيع فيه المرض العثور عليه، فقد حدقت أرواح شجاعة أخرى في وجه المرض وضحكت واحتفلت.
عند المواجهة مع كارثة مفاجئة أو حتمية الموت، بدا الناس منذ وقت طويل وكأنهم حريصون على الاحتفال. ولم يكن الناس في أوروبا في العصور الوسطى مختلفين. لقد انغمسوا في ملذات الحياة الفاخرة: النبيذ، والبيرة، والموسيقى الجيدة، والحفلات الصاخبة بالطبع. كان ثمة تذمّر من الضوضاء في إحدى صحف الضواحي، يمكنك سماع الجيران يزعقون حتى الرابعة صباحاً. باستثناء هؤلاء، لم تكن أفضل أغاني الولايات المتحدة تلك التي تدوي عبر مكبرات الصوت، بل كانت بالأحرى مجاميع كبيرة من المغنين الجوالين يغنون أغاني صاخبة. لكن تذكّر أنَّ هؤلاء الناس شعروا بأنَّ الموت أمرٌ لا مفر منه، وفي النهاية، كان كل واحد منهم يحاول التملص منه فقط بأفضل ما يستطيع. بهذه الطريقة، انهار النظام الاجتماعي النموذجي لأوروبا في العصور الوسطى تماماً.
عندما تهدم النظام الاجتماعي في أوروبا واندلعت الفوضى، بدأ الشكل الموسيقي بالازدهار في مناطق جديدة. استكشف الملحنون أشكالاً معقّدة علمانيَّة للأغاني، مثل نمط «الفيرلاي» Virelai و”البالاد” Ballade و”الروندو” Rondeau. كانت هذه الأغاني جزءاً من حركة نحو موسيقى أكثر تعقيداً: أضحت الموسيقى باضطراد أيضاً جزءاً من النسيج الاجتماعي العلماني للحياة الأوروبيَّة، وليس الجزء الديني فقط.
ضرب الموت الأسود أوروبا بشكل أقوى حوالي 1348 - 1350، حيث قُتل نحو من ربع إلى نصف سكان أوروبا بسبب الطاعون. ولأنه كان منتشراً جداً، لم يعرف أحد من الذي سيصاب بالمرض لاحقاً، ما تسبب في حالة من الذعر. لم يكن الطب فعالاً في معالجة المرض، واعتقد الكثيرون أنَّ غضب الربّ قد انصبّ على الأرض. تسبب الطاعون بهستيريا جماعية لم تتوقف، ويصف جيوفاني بوكاتشيو هذه الفوضى في مقدمة كتابه “الديكاميرون” عام 1349. في حين إنَّ الكتاب هو في الواقع خيالٌ قائمٌ على المعرفة التاريخيَّة، فإنَّ مقدمته تعدُّ بمثابة سرد تاريخي لردود أفعال الناس المختلفة على الأزمة. اختار البعض التوبة عن خطاياهم، والبعض فضّل أنْ يحمل معه تعاويذ الحظ لدرء المرض، بينما تخلّى البعض الآخر عن الدين تماماً، وعاشوا بدلاً من ذلك حياة مرح وعربدة. من خلال الانغماس في ملذات الحياة، سعى هؤلاء الناس إلى الاحتفال كلما استطاعوا. ولأنَّ الكثيرين اعتقدوا أن النهاية باتت وشيكة، لم يعودوا يهتمون بالاحتفاظ بممتلكاتهم، وأشياء مثل المنازل أضحت ملكية مشتركة.
كان بإمكان المحتفلين الدخول إلى أي منزل والادعاء بأنه ملكهم لأنَّ الناس لم يعودوا يكترثون بحقوق الملكية. ثم كان هنالك مَن هجرَ المجتمع كليًّا، واختاروا حبس أنفسهم بعيداً مع انتشار الطاعون في البلدات التي من حولهم. وفي حجراتهم المنعزلة، شغلوا أنفسهم عن الموت والدمار بأطايب الحياة: النبيذ الفاخر والموسيقى.
أحد هؤلاء المنعزلين الناجين من الطاعون كان الملحن غيوم دو ماشو، من فرنسا. بدأ في استكشاف خلق أشكال موسيقية علمانية حتى قبل الطاعون، وكتابة القصائد ووضعها في إطار لحني. بعد أن هدأ أسوأ ما في الطاعون، اكتسب هذا النمط الموسيقي، المؤسَّس على الأشكال الشعرية المعمول بها من قبل، شعبية كبيرة. بحلول عام 1365، أضحت “البالاد” أحد أشهر أشكال الأغاني العلمانية. وألّف دو ماشو الكثير منها. واحدة من أجمل مؤلفاته جاءت من قصته Le Livre dou Voir Dit، التي بعنوان “Nes que on porroi”.
وبمناسبة الحديث عن أشكال الأغاني المؤسسة على الشعر، فإنَّ كل يوم في رواية بوكاتشيو “الديكاميرون” يختتم بأغنية تؤديها إحدى الشخصيات، عادة ما تكون “بالاتا”، النسخة الإيطالية من “الفيرلاي” الفرنسية. ناج آخر من عصر الطاعون يُدعى لورنزو الفلورنسي قام بتلحين نص بوكاتشيو على شكل مقطوعتين من “البالاتا”، وهو الملحن الوحيد المعروف بأنه لحّن هذه النصوص. إحدى الأغاني التي قام بتلحينها كانت “بالاتا” بعنوان Non so qual i mi voglia.
عندما كان الوباء شنيعاً، وجد الكثير من الناس طرقاً لجعل مرور الوقت أكثر احتمالاً. وكانت الموسيقى جزءاً كبيراً من الاستمتاع. لذلك، في المرة القادمة التي تقيم فيها حفلة منزليَّة، ربما تضع بالاتا أو اثنتين في جهاز التسجيل، نخب العصور القديمة.
WQXR