بغداد: نورا خالد
ثوابت لا غنى عنها لعادات شهر رمضان في مدينة الموصل، التي تستعد لهذا الشهر قبل ان يهل هلاله المبارك، حيث تميزت هذه المدينة ببحر زاخر من التراث المادي والمعنوي من عادات وتقاليد وحكم وامثال وقصص وملاحم ومهن وأصناف وفنون وألعاب وأكلات وأعياد دينية واجتماعية.
الدكتور احمد قاسم الجمعة استاذ الآثار والتراث المتمرس في جامعة الموصل حدثنا عن رمضان في مدينته قائلا: «تلوح بوادر شهر رمضان في الافق بالموصل منذ منتصف شهر شعبان، فيهيئ السكان كل ما يتطلبونه صيام الشهر على مائدتي السحور والفطور من طعام ومواد لازمة لاعداده، وفي مقدمتها التمور والعدس والبقوليات والبرغل بانواعه، فضلا عن بعض الخضراوات المجففة كالباميا والباذنجان في فصل الشتاء، والطازجة في فصل الصيف فضلا عن الحلويات والعصائر، وفي ليلة الجمعة الاخيرة من شهر شعبان يجتمع الناس في الجوامع والمساجد للترحيب بشهر رمضان. وقبيل صلاة العشاء يصعد بعضهم الى أحواض المآذن ويبدؤون بقراءة القصائد في مدح الرسول (ص) بايقاعات شجية، وما بين مقاطعها يرددون العبارات التالية: «مرحبا مرحبا يا رمضان، يا شهر التراويح وعليك السلام، مرحبا مرحبا يا رمضان، يا شهر الغفران وعليك السلام».
يعود بنا الجمعة في ذكرياته الى رمضان في الماضي، فيشير الى ان «حلقات الذكر كانت تقام منذ منتصف شهر شعبان في المساجد وفي العديد من البيوت وفق الطريقة الصوفية، وأهمها حلقة الشيخ سليمان بجامع جمشيد في الاربعينيات مع ترتيل القرآن الكريم، كما تقام الصلوات وتروى الاحاديث الشريفة وقراءة دلائل الخيرات والادعية وترديد التواشيح الدينية بحضور جمع غفير من العشاق، بمعية الدفوف والتراتيل التي تتم بحركات ايقاعية باتجاهات وحركات للرؤوس والاجساد المتراصة، وتستمر حتى صلاة الفجر، ويعقبها الهدوء ويغادر الحاضرون الى بيوتهم».
ويتابع «في الليلة الاخيرة من شهر شعبان او ما قبلها وقبيل الغروب يتحرى الناس رؤية هلال شهر رمضان، ففي العراء وصفاء الجو يراقب الشخص موضع قرص الشمس عند نزوله في الافق وبمجرد غيابها مباشرة يرفع الشخص نظره بحدود القامة نحو الاعلى مع التفاتة بسيطة نحو اليمين ويحدق بدقة في ذلك الموضع من الافق وبنظرة ثاقبة يرى الهلال على هيئة خيط رفيع منحني وبلون ابيض. واحيانا تستعمل بعض بيوتات الموصل «طشت» من المعدن به ماء في فناء الدار قبيل الغروب والسماء صافية، فيمكن لبعضهم رؤية انعكاس الهلال على الماء فضلا عن صعود عامة الناس لأسطح البيوت العالية والمآذن بغية رؤية الهلال، مستعملين المنظار احيانا». ويكمل الجمعة حديثه «في حالة رؤية الهلال من قبل أي شخص يذهب الى المحكمة الشرعية في الموصل القديمة ليدلي بشهادته أمام القاضي، الذي يقرر شرعا ثبوت ميلاد شهر رمضان، ويعلن ذلك للملأ بعدة وسائل منها: اطلاق المدافع وإنارة مصابيح المآذن والقباب مع التكبيرات في المساجد».
أما المائدة الموصلية فلا تمثل الا واجهة صغيرة من واجهات رمضان، فحالما يحل هذا الشهر حتى يتحول ليل المدينة الى نهار يعج بالاضواء والانوار الزاهية، اذ اعتادوا اهلها على وضع الزينة والاضواء الملونة على البيوت والمحال والجوامع والابنية الرسمية احتفالا برمضان.
الافطار لدى اهل الموصل يتم بعد أذان المغرب بتناول التمر ثم أداء الصلاة، وبعدها يبدأ تناول الفطور، لاسيما العدس ثم المشويات والاطعمة الاخرى، كالكبة الموصلية التي ترقى باصولها الى القرن التاسع قبل الميلاد خلال العصر الآشوري، وعروق التنور والدولمة والرز والخضراوات التي تتخللها العصائر كشربت الزبيب الاسود (الطحلب)، الذي يهيأ بالبيت بعد نقعه ودقه باكياس مضاف اليه النعناع والماء، ومن عناصر الفطور الاخرى التمر هند وعرق السوس واللبن الرائب وعصير التمر، فضلا عن الطرشي.
تستمر الحركة الى اوقات متاخرة من الليل، حتى ان بعض المهن تبدا بعد الافطار الى وقت السحور ومنها محال بيع الزلابية والبقلاوة والحلويات والكرزات بانواعها، حتى ان اصحاب هذه المحال يعدون شهر رمضان موسم العمل الاكثر ربحا ورواجا لبضاعتهم.
ويكمل الجمعة كلامه لـ»الصباح» عن السهرات الرمضانية الموصلية فيقول «تختلف فعاليات الناس حسب اعمارهم واجناسهم ومهنهم، فالشباب والصبية يرتادون المقاهي ليمارسوا لعبة المحيبس بشكل محدود اما لعبة (الفر) فهي الاكثر انتشارا في المدينة ومفادها صينية من النحاس دائرية توضع بداخلها اجراس صغيرة من البرونز ويوضع خاتم او (دعبل) تحت إحداها وتدور الصينية عدة دورات ولهذا تسمى لعبة (الفر) واللاعب الماهر هو الذي يستطيع استخراج الخاتم، وتحتسب النقاط التي تبلغ ما بين التسعين والمئة للفريق الفائز الذي يكسب الرهان الذي غالبا ما يكون صينية بقلاوة او زلابية، اما كبار السن والشيوخ فيذهبون عادة الى صلاة العشاء ومن ثم اداء التراويح والذكر وجلسات الوعظ والحديث التي تستمر الى السحور، بينما الاطفال يجوبون الازقة ويطرقون ابواب البيوت وينشدون (ماجينا يا ماجينا حل الكيس وانطينا، تنطونا لو ننطيكم بيت مكة انوديكم، هاي مكة المعمورة مبنية بجص ونورة)، وبهذه الوسيلة يجمعون بعض النقود لشراء بعض الحلويات لهم».
ولا تخلو ليالي رمضان من تزاور نسوة الجيران ومع حلول العشر الاواخر من الشهر الكريم يعكفن على إعداد «الكليجة» والتي تتم بمساعدة بعضهن البعض.
السحور الموصلي عادة ما يقوم على منتوجات الالبان والمربيات والعسل، او على الاطعمة المتبقية من الافطار.
وبحلول ليلة الجمعة الاخيرة من شهر رمضان المبارك وقبيل صلاة العشاء تردد على المآذن عبارات توديع رمضان وهي عبارات الترحيب به نفسها، بعد استبدال كلمة (مرحبا) بكلمة (الوداع) ومثال ذلك «الوداع الوداع يا رمضان، يا شهر التراويح وعليك السلام».
وختم الجمعة حديثه «بعد ذلك تنهمك الأسر لاستقبال عيد الفطر المبارك من تهيئة البيوت بصورة لائقة لاستقبال المهنئين بالعيد، واستكمال متطلبات الملابس والغذاء بهذه المناسبة».