علي الوردي في مرايا الآخرين

منصة 2021/05/12
...

 د. نادية هناوي
جادل الدكتور علي الوردي كباحث أكاديمي متخصص ومفكر له آراؤه وصاحب أسلوب كتابي خاص باحثين أخذوا عليه مآخذ عدة، فكان أن رد على بعضهم بشكل غير مباشر بينما ناظر بعضهم الآخر عبر مجادلات ومحاضرات متنوعة. وبسبب حدية بعض آرائه ولا مألوفية الطرح فيها انقسم مؤاخذوه إلى فريقين: فريق يخالفه علمياً بأدلة دقيقة وحجج موضوعية، وفريق يخالفه مزاجياً حسداً أو مناكدة أو مشاكسة. ويعنينا في هذا المجال الفريق الاول الذي انتقد فكر الدكتور الوردي بطرائق بحث منهجية اجتماعية وغير اجتماعية. وبعض منهم عاصر الوردي وجايله ومنهم من ظهر بعد رحيله من باحثين وكتّاب بعضهم معروف وبعضهم غير معروف. 
 
 
نقد منهجي
ومن هؤلاء الباحثين حميد الشاكر الذي كتب سلسلة مقالات تحت عنوان (كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي) ونشرها في موقع كتابات في الميزان. وتساءل في مقدمة هذه السلسلة هل كانت مواقف المرحوم علي حسين الوردي السياسية تقف إلى جانب خطط ومناورات ومؤامرات الساسة وأصحاب الحكم ضد الشعب العراقي ومصالحه وإرادته وتطلعاته؟ 
بدءاً أكد الباحث حميد الشاكر أنَّ مواقف الوردي الايديولوجية السياسية تتناقض أشد التناقض بحيث يحار المتتبع للوردي في أي تصنيف أيديولوجي يضع كتبه وإلى أي جهة تنتمي آراؤه. فهو في بداية الخمسينيات كان داعية للرأسمالية الفردية ـ على حد وصف الشاكر ـ بينما صار في بداية الستينيات يلعن الرأسمالية ويميل إلى الإيديولوجية الاشتراكية ويبدي إعجابه بالماركسية. وفي السبعينيات ظهرت عليه الفوضوية الفكريَّة والموت الإبداعي وغياب المنهجية العلمية. 
وفّسر هذا الباحث الانعكاسات السلبية لفكر الوردي عند الطبقة العاملة ورودود أفعالها الناقمة والمحتقنة بما طرحه الوردي حول المجتمع العراقي من أفكار تتعلق بالازدواج والتناشز وغيرها والتي تبدو في الظاهر أنها تقف مع المظلومين، بينما هي تُنظِّر لمشروعية الدكتاتورية السلطوية وتخدم مشاريعها السياسية.
وإنَّ هذا هو السبب في ما وصل اليه علم الاجتماع من التراجع الى القاع والعقم المستدام ـ على رأي الباحث ـ فلم تنتج مدرسة علم الاجتماع ولا تلميذا واحدا، منتهيا من سلسلة مقالات إلى أن العامل السياسي الداخلي العراقي هو التفسير لعقم فكر الوردي وانقطاعه عن الاستمرار والتدفق الابداعي على مستوى التنظير والتأليف بعد السبعينيات.
 
مناقشة هادئة
وللكاتب الماركسي صادق البلادي بضع مقالات نوعية ناقش فيها جانباً من جوانب فكر علي الوردي مناقشة هادئة وعميقة، كأن يقف عند مفهوم ما من مفاهيم الوردي أو يرصد لديه تأويلا معينا، فيجادله موافقا أو معارضا. وقد يثيره مقال كُتب عن فكر الوردي فيعمد إلى الإدلاء برأيه حول ما طرحه ذاك المقال من رأي، موظفاً معرفته بفكر علي الوردي وكيف أوصله التذبذب في تبني طروحات الماركسية إلى بعض الثغرات والهنات التي أخذها عليه معارضوه وبعض منهم من الشيوعيين الذين اعترضوا عليه بردود أفعال قوية تارة ولينة تارة أخرى وبحسب طبيعة الفكرة التي يبادر الوردي إلى 
طرحها. 
وهذا برأينا هو ما جعل الدارسين لفكر الوردي ينقسمون بين اعتباره شيوعياً يوالي الفكر الماركسي ويتبناه، وبين من يعتبره لا منتميًا يصادي الماركسية، متحينا الفرص للايقاع بالشيوعية في شرك التشكيك والدحض. وعلى الرغم من أن الدكتور الوردي كان معروفاً بميوله لثقافة الحوار والتنوير العقلي، وبهما تعدى حدود السياسة بكل تحزباتها وتنظيماتها اليسارية أو الديمقراطية، فإن هذه الميول لم تمكنه من صنع رأي عام ديمقراطي يساهم في تنمية الوعي الشعبي. هذا الوعي الذي لم يكن ضمن أولويات الوردي بعكس الأحزاب التي تضع الرأي العام في مقدمة أولوياتها ساعية إلى تحقيقه مناهضة بذلك الفكر الرجعي المتعصب والمحافظ ومقاومة الأساليب الفاشية الراكدة التي أكل الدهر عليها وشرب والتي هي بمجموعها تخدم المصالح الإمبريالية.
وكان يمكن للوردي أن يكون مساندا القوى التقدمية في معركتها مع القوى الرجعية لو أنه ناصر طروحات اليسار العراقي ولم يدخل في ما يشبه التعارض مع فكرهم حتى أن بعضهم تصور الوردي يعادي الشيوعيين ويكرههم. 
ومن المقالات التي أثارت اهتمام الاستاذ صادق البلادي المقال الذي كتبه وليد نويهض في جريدة الحياة اللندنية عام 1996 وعنوانه” كيف قرأ علي الوردي الشخصية العراقية في ضوء منهج ابن خلدون.؟” متحصلا فيه على فكرة “أن علي الوردي يكره الشيوعيين وأن الشيوعيين يكرهونه”. الامر الذي جعل الاستاذ البلادي يكتب مقالا عنوانه( الشيوعيون وعلي الوردي) رد فيه على نويهض، نافيا فيه عن الوردي النظرة السكونية والأحادية، ملقيا باللوم لا على فكر الوردي وإنما على محللي هذا الفكر الذين يتناسون ما للقوى الحزبية من ثبات وانحياز وما للوردي من تبدل ولا انتماء. 
 
الصراع بين البداوة والحضارة
ومما دحضه البلادي وكان نويهض قد أكده هو أن منطق الدكتور الوردي في تحليل الشخصية العراقية على ضوء الصراع بين البداوة والحضارة يعد كافياً لتعليل ظاهرة صدام، وردَّ البلادي بأن الصراع بين البداوة والحضارة في رأي الدكتور الوردي ليس جاريا في العراق دون غيره من الدول العربية التي مرت بمثل الظروف التي مر بها العراق في العهد العثماني، والعراق قياسا الى بعض الدول العربية قد أخذ في تجاوز مرحلة العصبية القبلية منذ فترة ليست بالقريبة، وهو ما وسم الشخصية العراقية بانها نموذج لما يجري في المجتمع العربي عموما من صراع بين البداوة والحضارة.
وعزز البلادي رأيه بأدلة ثلاثة: أولها نقاش الاستاذ علي الشوك حول كتاب( وعاظ السلاطين) في ثلاث حلقات على صفحات جريدة الحرية. وثانيها مجادلة أحد أساتذة الاجتماع عام 1959 حول كتاب(الاحلام بين العلم و العقيدة)، وعنها قال البلادي:” فالوردي يتحدث هنا عن جدل ونقاش مع احد زملائه الجامعيين، والحوار ينشر في مجلة للشيوعيين، فهل هذا هو تعامل من تسود بينهم الكراهية و السخرية ؟ والدليل الثالث هو مقال صادق البلادي نفسه لكن باسم مستعار هو ( حمدان يوسف ) وقد جادل الوردي في بعض المفاهيم الخاطئة عنده وذلك أواخر كانون أول عام 1976. ونُشر المقال في جريدة طريق الشعب، وفيه أكد أنّ الوردي قابل مقاله بالاحترام والتقدير الكبيرين وذكر أنه لا يعرف جميع أسرار الطبيعة، وأنه لم يدرس الماركسية من مصادرها، وعلق البلادي بالقول:” إن الحياد والموضوعية لا ينتهيان عند من يمتلكهما إلى الصواب دائما وإلا ما كان في البحث العلمي أي نقاش ولا حوار ولا مجادلة ولا اختصام”. 
 
الحياد واللاانتماء
ولكننا نتساءل: كيف يمكن لعالم اجتماع أن تفوته قراءة الماركسية من مصادرها بعد أكثر من قرن من ظهورها؛ وهي التي جمعت الفلسفة بالدين بالاجتماع بالسياسة بالتاريخ؟! فأتت بالأولى من صوامعها، والثاني من تكاياه وزواياه وأديرته، والثالث من أقبيته المعتمة، والرابعة من دهاليزها وكواليسها وأبراجها العاجية، والخامس من سردياته المسكوت عنها أو الملفقة لتنزلها إلى الشارع الطبقي فيشتد صراع طبقاته بعد أن تهرسها جميعا وسائل الإنتاج، ليدرك أبسط عامل في جنوب العراق ربما لا يقرأ ولا يكتب معادلة من أصعب المعادلات في الاقتصاد بأنَّ له في السلعة التي بين يديه حصة هي (فائض القيمة) التي خلقتها قوة عمله؟!.
وإذ لم يفصِّل الباحث صادق البلادي القول في الأسباب التي حملت علي الوردي على الحياد واللاانتماء، فإننا نرى أنهما أي الحياد واللاانتماء كانا بمثابة تطامن مع السلطات أيا كانت رجعية أو تقدمية. هذا التطامن الذي أتاح له التفكر بحرية بعيداً عن التحزب والتقيد بالايديولوجيا. وأن الدكتور الوردي بتأكيده الدائم على أنه موضوعي ومحايد تمكن من مسك العصا من الوسط فانحاز وتعصب بحسب ما يملي عليه فكره ومرجعياته وفي الوقت نفسه تحرر وانفتح بلا حسيب ولا رقيب ما دام الهدف الذي ينشد بلوغه هو اللاالتزام واللاانتماء، وهما اللذان جعلا الوردي ينجو أولا من التصفية الجسدية التي طالت الشيوعيين والديمقراطيين في انقلاب شباط 1963 وما تلا ذلك الانقلاب من تقييد وعنف ساهم في تعميق الاختلافات الايديولوجية والطائفية، ومكناه ثانيا من السير مع التيار على الرغم من تنوع القوى الفاعلة في مد هذا التيار بالزخم فلا هو ناصر الشيوعيين فناصبه غيرهم العداء ولا هو صب عليهم كراهيته فتهادن بذلك مع فكر الاخر المناوئ لهم.
 
إنعاش الحركة الفكريَّة
ولو أخذ الوردي من المفكرين الايديولوجيين حماستهم في توعية الرأي العام، وأخذ هؤلاء المفكرون من الوردي قليلاً من لا انتمائيته لانتعشت الحركة الفكريَّة في العراق، ولكان لنا مفكرون أصحاب نظريات تَعرف الحياد وقد تتبنى التوعية والتوجيه كما هو حاصل في دول عربية فيها ظهر مفكرون غير حزبيين لكنهم مع ذلك يحملون ايديولوجياتهم الخاصة التي قد تكون ثورية أو راديكالية او ليبرالية في مصر مثلا ولبنان والمغرب العربي وسوريا.
ولطالما حاول علي الوردي أنْ يُظهر نفسه بمظهر الباحث الموضوعي المحايد وهو يرصد الظواهر المجتمعية ويقوم بتحليلها لكن ذلك التمظهر لم يكن سوى غطاء يراد من ادعائه الالتفاف على الافكار والنظريات التي لم يرد الوردي أنْ يدعي أنه متبنٍ لها أو منتمٍ الى أصحابها. وأقول ادعاء لأنَّ الموضوعيَّة والحياديَّة سمتان لا يمكن تحقيقهما بشكلٍ تامٍ على صعيد العلوم الإنسانيَّة، بينما هي متحققة على صعيد العلوم الصرفيَّة التي يمكن فيها الوصول الى نتائج توصف بالموضوعيَّة والحياد، فلا تقبل الخطأ ولا النسبيَّة بسبب معياريَّة النظر
والتطبيق.