جاسم عاصي
لا شك أن المربين التربويين وعلماء النفس، حين ذكروا، أن عقل الطفل عبارة عن صفحة بيضاء، لم يجانبوا الحقيقة التي عُنيَّ من خلالها التكوّن الفسلجي لدماغ الطفل والتباين الخُلقي. ونبهوا على خطورة ما يترتب على هذه الصفحة من التطور أو التشويه والإرباك والاعوجاج، الذي يصعب علاجه. لاسيّما لو استمر هذا العامل في إحداث تراكم الخطأ، مما يوّلد حالة يوعزون من خلالها ــ ومن بعد عجز الوسائل على تلافيها ــ كون الطفل مصابا بالتخلف، ونقص في قدرته على الاستيعاب. وهذه النظرة تـُرشح عجزها تماماً، إذا ما قيست بالمستوى العلمي التربوي الذي توصل إليه علماء النفس والتربية وعلماء فسلجة الدماغ. من استحالة ولادة طفل غبي بالتمام، وإنما منذ تشكله وولادته وهو يحمل عوامل نموه وطبيعته الفسلجية التي تؤهله للتميّز في هذا الجانب أو ذاك.
وهذا ما أثبتته اكتشافات(العالم بافلوف والدكتور نوري جعفر) في مجال فسلجة الدماغ. وهذا وغيره من الكشوفات تقودنا بطبيعة الحال إلى الامساك بمقولة (الصفحة البيضاء) منتبهين على الوسائل، التي من شأنها إدراك الأهداف عن طريق تأدية الوظائف على أحسن صورة ممكنة، معتبرين أن العملية التربوية، ما هي إلا رسالة دائمة، يتوجب على المربي الاستعداد لها على طول الزمن، دون أن تؤثر في ذلك الظروف المحيطة، خاصة ظروفنا السياسية والاجتماعية التي عانت من الانتكاسات والويلات، ما أدت إلى سوء الواقع التربوية وتدني المستوى العلمي. ولو دققنا في مثل هذه الظاهرة، لتوقفنا على مجموعة عوامل ذاتية وأخرى موضوعية. ففي المجال الموضوعي، نرى أن التقلبات آنفة الذكر كان لها دور أساسي في حدوث مثل هذا التدهور. لكننا إذا ما أردنا التطلع من منظور ذاتي، معتبرين قول المصطفى ( أطلب العلم من المهد إلى اللحد ) و ( اطلب العلم ولو في الصين ) و ( من علمني حرفا ملكني عبدا) وغيرها من مأثور القول، مما يؤكد جانبين في المؤثر الذاتي. أولهما : المنهج، وثانيهما : الأداة ــ المعلم ــ فقد اعتدنا ومنذ حقب من الزمن على اعتماد حالة.
حراك تربوي سقت هذا من بعد ما قمنا بزيارة روضة تميّزت بإمكانيات ذاتية وموضوعية. وكان لهذا الكشف مبرراته في الوقوف على مستوى الاهتمام بثقافة الطفل، ومحاولة ربط المرفق التربوي هذا أو سواه بالمؤسسات الثقافية كدار ثقافة الطفل مثلً، أو المؤسسات ذات الوظيفة المزدوجة كدار الأيتام أو بيوت الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
كل هذا يجري لهدف توفير مرفق ثقافي للطفل. ولعل الوسائل كثيرة، ابتداءً من الدوريات كالمجلات والسلاسل القصصية والعلمية، والكتب المصوّرة وعرض الأفلام ذات الصبغة التربوية والعلمية والمسلية. ثم الاستفادة من إقامة علاقة مع نقابة الفنانين، لتقديم عروض مسرحية بسيطة وموجهة لنمو ملكة الطفل وإثراء حافظته الثقافية. إن التنسيق هذا يوّلد حراكاً تربوياً، لأنه يملأ الفراغ الذي تـُحدثه الأنماط في الأداء التربوي، حيث أنها تُحث عقل الطفل على الابتكار، بما تتركه من خزين في ذاكرته. وهو نوع من النقش على الحجر. إن انفتاح المؤسسة التربوية على مرافق الثقافة يعني توسيع دائرة العمل. وبالتالي إثراء للعملية التربوية، لأنها تستكمل رسالتها بسعة وشمول.
إننا هنا بصدد معالجة مسألة مهمة في الحياة التربوية، وذلك بمتابعة الجذور الأولى لثقافة الطفل، حيث بالإمكان خلقها ابتداء من رياض الأطفال، والعمل على ملاحقتها وتنميتها على أسس علمية في المراحل الابتدائية
والمتوسطة.
يرفد ذلك نوع من الاهتمام والتكميل من خلال تبني ثقافة موجهة، ساعية إلى تنمية الملكة العقلية، واستنهاض الموهبة الموروثة التي هي بمثابة جينات وراثية، يمكن العمل على تصعيد طبيعتها عن طريق خلق المناخات الملائمة والمناسبة لإطلاق الامكانيات المضمرة. وفي الجاني الآخر، حث الذي لهم قدرة على الاستقبال للعادات القرائية المكتسبة، لا لتوجيه مواهبهم فحسب، وإنما للكشف عن قدراتهم الذاتية أيضاً أسوة بذوي المواهب. إننا جميعاً بإزاء رسالة إنسانية كبيرة ودقيقة، لا بدَّ من اختيار أنجع الطرق والوسائل لتنفيذ برامجنا التربوي.