حينما كانت دونون الاسكتلنديَّة قاعدة لصواريخ أميركا النوويَّة

بانوراما 2021/05/17
...

  كريغ ويليامز
  ترجمة: بهاء سلمان
لم تكن بلدة «دونون» غريبة عن الغواصات وطواقمها بحلول الوقت الذي وصلت فيه أولى الغواصات الأميركية شهر آذار 1961 إلى اسكتلندا، لكن تأسيس قاعدة أميركية في هذا البلد كانت تمثل خطوة مثيرة للجدل.
تقع بلدة «أرغيل» في حلق ما يعرف بالبحيرة المقدسة، على الجانب الشرقي من شبه جزيرة كوال. وتنفتح البحيرة مباشرة على نهر كلايد ومزيج من مياه عميقة، وملاذ طبيعي، ومدخل سهل إلى بحر مفتوح، وكانت قد أمّنت في السابق موقعا ستراتيجيا مهما للغاية حينما اندلعت الحرب سنة 1939.
وتمركزت غواصات البحرية البريطانية هناك خلال فترة الحرب العالمية الثانية، منفذة عملياتها عبر المحيط الأطلسي. بيد أن القاعدة الأميركية ستكون شيئا مختلفا تماما؛ فمع حلول بداية الستينيات، كانت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يزيدان من حجم ترسانتيهما النووية.
طوّر الأميركان نظام الصاروخ النووي «بولاريس» الذي يطلق من الغواصات، غير أنهم احتاجوا إلى قاعدة لإسطولهم داخل أوروبا، لتعقد أميركا اتفاقا مع بريطانيا جلبت بموجبه الصواريخ إلى منطقة أرغيل، لتتحكم على مدى العقد التالي بالبحيرة المقدسة، بينما ستبني البحرية البريطانية قاعدتها الخاصة بها على بعد عدة أميال في فاسلين على بحيرة «كير». 
وأبحرت الغواصة الاميركية بروتيوس إلى البحيرة المقدسة لتأسيس القاعدة الأميركية. لعبت هذه السفينة العملاقة، المحاربة القديمة في المحيط الأطلسي، دورا إسناديا لغواصات الصواريخ البالستية، وكرّس طاقمها عمله لصيانة الإسطول الغاطس تحت الماء. تألف طاقم بروتيوس من 980 عسكريا ورجلا، وحملت معها نحو 500 أسرة، وتم إسكانهم على البحيرة أثناء ما كانت طواقم الغواصات تتحرك بواجباتها.
 
رفض شعبي
كان جلب الغواصات الأميركية لأول صواريخ نووية إلى المياه البريطانية قد أثار منذ البداية جدلا، فبعد يوم من وصولها، خرج ألف شخص بمسيرة احتجاجية على طول البحيرة. كانت «ايزابيل لندسي» عضوا مؤسسا للحملة الاسكتلندية لنزع السلاح النووي، وعلقت بأن «قاعدة البحيرة المقدسة احدثت حركة هائلة من النشاط». لكن تحالفا فوريا بين جماعة الحملة والنقابات التجارية وبعض أجنحة حزب العمال، إضافة للكنائس رفض النشاط العسكري النووي. فقد مثل هذا الأمر لحظة تحوّل فاصلة لحركة مناهضة السلاح النووي في اسكتلندا. واستمرت الاحتجاجات والمسيرات المناهضة لوجود القاعدة على مدى بقائها هناك. وأدخلت الغواصات البحيرة المقدسة الى عالم السياسة العالمية، لكنها أسهمت بتغيير منطقة دونون وسكانها جذريا، ولم يستمر الحال على هذا المنوال، فبحلول العام 1961 بدأت الأيام الرائعة للبلدة تخبو كمنتجع على البحر، ومثل تدفق مئات البحارة الأميركان وأسرهم تغييرا ثقافيا للمنطقة، مع تعزيز للاقتصاد.
كان عمر جيري بيرسلي 23 سنة حينما قدم للقاعدة سنة 1962، والتقى لندا جونز من أهالي ارغيل، وتزوّجا لاحقا، مثلما حصل للكثير من البحارة الأميركان. في الواقع، حصل خلال فترة السنوات 1961 و1971 كانت ثلث الزيجات المحلية المسجلة قد حصلت بين نساء غير أميركيات وأفراد البحرية الأميركية، ورافقت هذه الحالة مشاكل بين رجال المنطقة والبحارة.
وصل معدل بقاء الأميركان خلال بعض الاوقات في منطقة البحيرة المقدسة الى عدد يتراوح من 3500 إلى 4000 فرد، لكن هذا لا يعني دخول الكثير من المال للتجمع السكاني المحلي؛ فبينما أقام الكثيرون في منازل مؤجرة، أو كنزلاء في بلدة دونون، أقامت أغلبية الاميركان في سفينة الإعاشة، كما ان القاعدة كانت لديها خدماتـها الخاصة، بضمنها محل بقالة ومصرف.
 
العودة للديار
ويقال ان دونون كان فيها أكبر عدد من سيارات الأجرة داخل بريطانيا، والعمل بهذه المصلحة كان يؤمن معيشة طيّبة، بحسب «فيل امباغتشير»، أحد البحارة الاميركان المقيمين حاليا في البلدة: «عندما قدمت لأول مرة، وإذا كنت ذاهبا صوب دونون، كانت الرحلة تكلف 85 بنسا، وكنا نترك للسائق خمسة بنسات إضافية، الذي كان غالبا ما يعلق بأنها كثيرة جدا، ولكننا كنا نعطيها في كل الأحوال. وكان السواق يقولون لنا في نهاية الرحلة، إفعل ما يحلو لك يا صاح».
أصبحت نهاية الوجود الأميركي في البحيرة المقدسة أمرا حتميا مع قرب نهاية الحرب الباردة، فعندما انهار الاتحاد السوفييتي، صدر القرار بإغلاق القاعدة؛ لتغادرها آخر سفينة بحلول شهر آذار 1992. وتطرق المؤرخ تريفور رويل إلى القاعدة عبر كتابه عن الحرب الباردة في اسكتلندا: «مواجهة الدب»، وكان يعتقد جازما أن البحيرة المقدسة تمثل جزءا حيويا من ستراتيجية الناتو الدفاعية.
يقول رويل: «كانت قاعدة البحيرة المقدسة عاملة لمدة 31 سنة، وطيلة تلك السنين لم تطلق سفنها النار كرد غاضب. وصمد سلام الحرب الباردة رغم التهديدات المستمرة للترسانة النووية. شهدت سنة 1992، تأسف عدد قليل جدا من الأهالي لرؤية البحارة الأميركان وهم يغادرون، بيد أن ثلاثة عقود من وجودهم تركت بصمة لا تمحى، فقد أقام البحارة علاقات مع السكان المحليين، كانت اجتماعية واقتصادية، وكان يطلق على تلك الفترة «السنوات الأميركيَّة».
ولا يزال عشرات البحارة الأميركان القدامى يعيشون في المنطقة، وهم يلتقون أحيانا ويتحدثون عبر الانترنت عن تاريخ القاعدة، ويتحدثون مع المدارس المحلية. يقول جيري: «أعتقد أن القاعدة الاميركية تمثل جزءا رائعا من تأريخ دونون، وأظن حقا أن كل من خدم هنا قد استمتع بمعيشته في اسكتلندا.»
 
موقع بي بي سي البريطاني