أيــن ذهـبـت ميــاه المريـــخ؟

بانوراما 2021/05/19
...

  كينيث تشانغ
ترجمة: أنيس الصفار  
في زمن مضى كان المريخ كوكباً رطباً.. وكان حجم المياه على سطحه يعادل محيطاً. أما اليوم فإن المريخ معظمه جاف كجفاف الصحراء، عدا بعض الترسبات الثلجية عند منطقتيه القطبيتين، فأين ذهبت بقية تلك المياه؟
 
                                        
البعض ضاع والجلّ الأعظم اندمج بالصخور
بعض مياه المريخ تشتت ثم تبدد شيئاً فشيئاً في الفضاء، لأن جزيئات الماء تتحطم تحت وقع جسيمات الرياح الشمسية المنهمرة عليها وتتحول الى ذرات عنصري الهايدروجين والاوكسجين. 
هذه الذرات، لاسيما ذرات عنصر الهايدروجين لكونها أخف وزناً، تتطاير الى الغلاف الجوي ومن هناك تنتقل بسرعة لتضيع في الفضاء الخارجي.
بيد ان الكم الأعظم من الماء ذهب الى الاسفل، حيث امتصته صخور الكوكب الأحمر وبقي محصوراً هناك ضمن تراكيب المعادن والأملاح، بحسبما خلصت إليه دراسة حديثة، لا بل إن 99 بالمئة من المياه التي كانت تجري ذات يوم على سطح المريخ قد تكون باقية هناك حتى الآن في الواقع، كما يقدر الباحثون في دراسة نشرتها مجلة “علوم” مؤخراً.
تكشف البيانات التي تجمعت على مدى عقدين من المهمات الروبوتية الى المريخ، ومنها جوال “كيوريوستي” ومركبة الاستطلاع المريخية المدارية اللذان ارسلتهما وكالة ناسا، عن انتشار واسع لما يسمّيه الجيولوجيون “المعادن المائية”.
تقول “بيثاني إيلمان” الاستاذة بعلم الكواكب من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا واحدى المشتغلين بالدراسة المذكورة: “بات واضحاً للغاية أن العثور على ادلة تشهد على حدوث تغييرات مائية أمر شائع وليس من النوادر”. تمضي إيلمان مبينة ان الصخور حين تتغير بفعل الماء السائل تندمج فيها جزيئات الماء بالمعادن، مثلما يحدث في معادن الطين. بهذه الكيفية يبقى الماء محتجزاً بقوة في القشرة، كما تقول إيلمان.
 
طبقة الكرة المكافئة
من أجل تصور كمية المياه الموجودة في المريخ يتحدث علماء الكواكب عما يسمى “طبقة الكرة المكافئة”، وهو تعبير معناه عمق طبقة الماء لو افترضنا أن الكوكب قد سوّي سطحه بحيث تحول الى كرة ملساء متجانسة بلا تضاريس او معالم.. فكم كان سيبلغ عمق طبقة الماء في هذه الحالة؟ 
يقدر العلماء ان عمقها كان سيتراوح بين 100 و1500 متر، والأرجح هو عمق 600 متر تقريباً.
تشير البيانات، الى جانب التمثيل المحاكي، أن المياه قد تلاشت بشكل تام تقريباً قبل ثلاثة مليارات سنة، أي في ذات الوقت تقريباً عندما كانت الحياة على الأرض ممثلة بأحياء بسيطة احادية الخلية تعيش في 
المحيطات.
تقول الباحثة الأولى في هذه الدراسة “إيفا شيلر”: “معنى هذا أن المريخ قد جف منذ زمن بعيد جداً.” 
والماء لا يزال موجوداً على المريخ الى اليوم وكميته تعادل محيطاً يغلف كرة الكوكب بعمق 20 الى 40 متراً، ولكن هذا الماء متجمد عند القطبين الجليديين.
منذ زمن بعيد كان علماء الكواكب يتأملون بدهشة وعجب تلك الشواهد الغابرة التي تدل على أن مياه جارية قد نحتت آثارها على سطح المريخ.. الوديان الاخدودية الهائلة والتفرعات الملتفة التي كانت ذات يوم مجاري أنهار تجري وتتعرج، ودلتا المصبات حيث كانت الانهار تفرغ حمولتها من الرواسب في البحيرات.
 احدث مستكشف مريخي روبوتي ارسلته ناسا، وهو “برسيفيرنس” الذي هبط قبل بضعة أشهر داخل فوهة “جيزيرو”، سوف يتوجه مباشرة الى دلتا نهر تقع عند الحافة على أمل العثور على دلائل لوجود حياة قديمة.
الاستعانة بالشواهد الكيميائيّة
نحن لا نملك آلة زمن تمكننا من حساب كمية الماء التي كانت على المريخ في عصور شبابه، أي قبل اكثر من ثلاثة مليارات سنة، بطريقة مباشرة، ولكن ذرات الهيدروجين السابحة في الغلاف الجوي للمريخ لا تزال محتفظة الى اليوم بآثار يمكن أن تعيننا على استقراء لمحات من ذلك المحيط المندرس. فعلى كوكب الارض توجد ذرة هيدروجين واحدة من بين كل 5000 ذرة تنتمي الى نوع يطلق عليه اسم “ديوتيريوم”، وهي أثقل بضعفين من ذرة الهيدروجين الاعتيادية بسبب احتواء نواتها على نيوترون مع بروتون (في حين تحتوي ذرة الهيدروجين الاعتيادية على بروتون واحد فقط بدون نيوترون).
أما على المريخ فقد وجد أن تركيز ذرات الديوتيريوم اعلى بدرجة ملحوظة مما هو على الارض، حيث يبلغ نحو ذرة واحدة من بين كل 700 ذرة هيدروجين. يقول العلماء في “مركز غودار لطيران الفضاء” التابع لناسا، الذين اعلنوا عن هذا الكشف في العام 2015، ان تلك النسبة ربما يمكن الاستعانة بها لحساب كمية المياه التي كانت على المريخ. 
 
من المحتمل أن نسبة الديوتيريوم الى الهيدروجين العادي على المريخ كانت مشابهة في البداية لما هو على الأرض، لكنها استمرت بالتصاعد مع تبخر المياه وضياع مزيد من الهيدروجين في الفضاء بمرور الزمن، لأن احتمال افلات ذرات الديوتيريوم وانتقالها الى الفضاء وضياعها فيه أقل.
بيد أن هذا السياق المتصور تعترضه مشكلة، كما يقول “رينيو هو” الذي يعمل في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا ومن ضمن فريق المشتغلين بالدراسة الاخيرة، وهي ان المريخ وفقاً لهذا التصور لا يمكن ان يفقد الهيدروجين بالسرعة التي أدت الى جفافه. فقد أظهرت القياسات التي جمعتها المركبة المدارية “ميفن” التابعة لـ”ناسا” ان الماء المفقود وفق المعدل الحالي، المقدّر استقرائياً بأكثر من اربعة مليارات سنة، ليس سوى نزر يسير من حجم الماء المفقود واقعاً، وبالتالي لا يكفي لتفسير الجفاف العظيم الذي أصاب المريخ.
هذا الاستنتاج هو الذي دفع العلماء الى القيام ببحثهم الجديد الذي خلص الى ان الاغلبية العظمى من المياه قد اندمجت بالصخور.
في رسالة بالبريد الالكتروني كتب “جيرونيمو فيلانويفا”، وهو احد علماء ناسا الذين اجروا حسابات الديوتيريوم السابقة: “إنها دراسة مثيرة جداً للاهتمام لأنها ضمت عمليات عديدة الى بعضها من اجل ايجاد سيناريوهات بديلة تبين مصير المياه التي كانت تجري على كوكب المريخ، وهذا يعزز الاحتمال بأن الماضي كان أوفر ماء وان صخور المريخ الان تحتجز من المياه اكثر مما كان معتقداً في البداية.”
 
هل من جدوى؟
غير ان هذه المياه قد لا تجدي الأرضيين الذين يفكرون في استيطان المريخ بشيء، كما تقول السيدة شيلر، وتضيف أن تحرير الماء المقيّد بالمعادن داخل الصخور يتطلب التسخين الى درجات حرارة عالية، وأن علينا “طبخ” كميات كبيرة من الصخور، على حد تعبيرها، كي نحصل على ما يستحق الجهد.
يتأمل “إيلون ماسك” مؤسس “سبيس أكس”، الذي يحلم بإرسال مستوطنين الى المريخ ذات يوم، فكرة تفجير قنابل نووية على سطح المريخ لإذابة القلنسوتين الجليديتين القطبيتين وتدفئة الكوكب بحيث يصبح أكثر ملائمة لمعيشة البشر. 
تلك التفجيرات من شأنها أيضاً إطلاق بعض المياه المحتجزة في المعادن المائية، ولو ان السيدة شيلر لا يمكنها اعطاء تصورات بخصوص الكمية المتوقعة.
يقول “مايكل ماير” كبير علماء برنامج “ناسا” لاستكشاف المريخ: “اعتقد ان قصف كوكب بالاسلحة النووية ليس بالاسلوب المناسب لجعله ملائماً للاستيطان.”
على كوكب الأرض تمتص الصخور الماء ايضاً ولكنه لا يبقى فيها الى أجل مفتوح لأن حركة القشرة الأرضية تدفع بالصخور الى الأسفل حيث الطبقة المسماة “الجبة” وهناك تنصهر. بعد ذلك تندفع حمم الصخور المصهورة، ومعها الماء، عائدة الى السطح عن طريق البراكين. أما في المريخ فإن النشاط البركاني، شأنه شأن الماء السائل، قد خمد وعفا عليه الزمن كما يبدو منذ أمد 
بعيد.