سنغافورة وأثرها في نهضة الصين الاقتصاديَّة

بانوراما 2021/05/19
...

  جوستن هيغنبوتم
  ترجمة: بهاء سلمان
بتأهب واضح، وقف رئيس وزراء سنغافورة، لي كوان ييو، متأنقا ببذلته الرمادية برفقة زوجته ومسؤولي حكومته، على مدرج مطار بايا ليبار. كان الزعيم هناك للترحيب بضيف مهم الى دولة الجزيرة الصغيرة هذه بعد أقل من 15 سنة على نيلها الاستقلال. هناك، نزل من على سلم الطائرة، يرافقه وفد مؤلف من 36 فردا، النائب الأقدم لرئيس وزراء الصين دينغ شياوبنغ، مجريا زيارته الرسمية الأولى، لكنها صارت الوحيدة، لبلاد الحاكم لي.
 
ربما كان دينغ ضئيل الحجم، فطوله لم يزد عن 150 سنتيمترا، لكنه امتلك صلاحيات فائقة، فقد كان الرجل الثاني في هرم القيادة الصينية بعد هيوا غوفينغ، رئيس الحزب الشيوعي الصيني ورئيس الوزراء، والشخص المختار من قبل الزعيم ماو لخلافته. ارتدى دينغ زي الزعيم “ماو تسي تونغ” التقليدي، الذي كان لا يزال شائعا بين أفراد قيادة الحزب أثناء وقت الزيارة شهر تشرين الثاني 1978. صافح المسؤول الصيني لي المبتسم، الذي كان أطول منه بنحو 30 سنتيمتر؛ وسرعان ما غادر الرجلان، فقد كان عند لي الكثير ليريه لضيفه.
وبرغم التناقضات، صارت سنغافورة تمثل قصة نجاح مذهلة منذ انفصالها سنة 1965 عن الإتحاد الماليزي إثر خلافات سياسية واقتصادية عميقة. لم يكن لهذه الدولة – المدينة فعليا أي موارد طبيعية، وإنما فقط 242 ميلا مربعا من أراضي غابات على مد وجزر طفيف، مع صناعة بسيطة؛ لكنها ازدهرت بسبب بحث الحكومة المنتزعة لإعجاب الآخرين عن وسائل نجاة.
تحت قيادة لي، ركّزت الدولة على جذب استثمارات أجنبية، مع فرض قوة القانون وسياسة نقدية سليمة. وطوّرت الحكومة الأراضي الصناعية واستثمرت في البنية التحتية، حيث خصصت الأموال للتعليم والخدمات الصحية لإيجاد طبقة عاملة جديدة ضمن سكانها البالغ عددهم مليونان ونصف مليون نسمة، كما فتحت موانئها على العالم. وفي غضون عقد من الزمن، انضمت الدولة الحديثة التكوين إلى الاقتصاديات الانفجاية والتصديرية الواقعة في الشرق، من هونغ كونغ وكوريا الجنوبية وتايوان كأحد النمور الآسيوية.سنة 1965، كانت نسبة البطالة في سنغافورة تسعة بالمئة، وكانت حصة التصنيع من الناتج الإجمالي المحلي 14 بالمئة، وكانت قيمة دخل الفرد للناتج الإجمالي المحلي لا تتعدى 500 دولار سنويا. بحلول 1975، نمت القاعدة التصنيعية للبلاد إلى نسبة 22 بالمئة، كما وصل الاقتصاد إلى تشغيل كامل الأيدي العاملة، وإرتفع دخل الفرد السنوي إلى ثلاثة آلاف دولار. وإنتقلت الجزيرة الصغيرة من تصنيع الشخاط وصنارات الصيد إلى المواد البتروكيمياوية.
 
الجمع بين العالمين
وبينما كانت الحكومة تدعم الصناعة، لم تفرض قوانين صارمة؛ فهي لم تكن تشابه ما كانت عليه الصين الماوية. يقول جوش كورلانتزك، زميل مجلس جنوب شرق آسيا للعلاقات الخارجية: “وضعت سنغافورة أسسا لحكم جيّد للقانون، وكذلك للسياسات الداخلية، بالتالي شعرت الشركات المحلية والأجنبية بارتياح لاستثماراتها هناك. كما أقامت المحاكم قضاء عادلا موثوقا به، باستثناء قضايا ضد الحزب
 الحاكم”.
الأمر المهم أيضا بالنسبة لدينغ كان هو أن تطوّر سنغافورة صاحبه نظام حكم فاعل للحزب الواحد. لم يكن لدى لي متسع من الوقت للمناكفات السياسية، ووظف القانون بانتظام لسحق خصومه ومنتقديه. بدا الأمر وكأنه أفضل الموجود في العالمين الغربي والشرقي: التنمية الاقتصادية الغربية والسياسات الصارمة الشرقية.
رافق لي ضيفه في جولة بأرجاء الجزيرة ليريه ما حققه السنغافوريون من انجازات. كان التوقف الأول عند مقر هيئة الإسكان، حيث سرد الزعيم السنغافوري الوقائع والأرقام. 
أصاب الإعجاب دينغ بشكل واضح، واصفا سنغافورة بأنها “دولة شابة صناعية وشجاعة تعجّ بالنشاط”، وقال للصحفيين أثناء الزيارة: بينما يتم التمسّك بمبدأ الاستقلال والاعتماد الذاتي، سنتعلّم من التجارب المتقدمة للدول الأخرى. وبعد شهر من زيارته إلى سنغافورة، تبوأ دينغ دفة القيادة في الصين من هيوا المتحذّر من الإصلاحات، ليشرع بعدها “بالمرحلة البراغماتية للاشتراكية وفقا للخصائص الصينية”. فبدأ بفك جماعية الزراعة، وتحرّك نحو استقطاب الاستثمارات الأجنبية، مثل سنغافورة؛ كما استحدث مناطق صناعية خاصة للمصالح التجارية غير مقيّدة نسبيا بالبيروقراطية.
 
تنافس محموم
وتوجه عشرات آلاف المسؤولين الصينيين نحو سنغافورة لديمومة دراسة نظامها. وقال دينغ سنة 1992 خلال زيارة تفتيشية لجنوب الصين: يعد نظام سنغافورة الاجتماعي جيّدا إلى حد ما، ويمارس قادتها نظام إدارة حازم. ينبغي علينا التعلّم من تجربتهم، كما يجب علينا تحقيق إنجاز أفضل مما حققوه.
وهناك تعليق ذكره لي، جاء ضمن كتاب “عمالقة آسيا: حوارات مع لي كيوان ييو”، قال فيه: الأفكار التي صاغها دينغ شياو بينغ لو لم يأت إلى هنا ويرى بعينه الشركات الغربية المتعددة الجنسيات المنتجة للثروة لنا.. ربما لم يكن بالتالي ليجري حالة الانفتاح مطلقا.
بطبيعة الحال، لم تقلّد الإصلاحات الصينة سنغافورة بكل شيء. على سبيل المثال، بينما مثل حزب لي في سنغافورة أداة مهمة للاستقرار والتنمية، كانت للحزب الحاكم في الصين أيديولوجية حقيقية، كما يوضح ستيفن اورتمان من جامعة هونغ كونغ: “تحافظ الصين على كامل الحقيبة الشيوعية رغم الادعاءات بالبراغماتية، ومظهر الحكم الكامل للقانون لم يوجد مطلقا داخل الصين بنفس الدرجة الظاهرة في سنغافورة”.
زار لي نفسه الصين 33 مرة، وعندما مات سنة 2015، تم نعيه بشكل كبير من قبل الإعلام الحكومي الصيني. اليوم، تعد الصين ثاني اقتصاد في العالم، ولدى رئيسها الحالي شي جينبينغ، مذهبه الفكري الذي من الممكن أن يكون قريبا من مذهب دينغ، فقد أضاف فقط بعض الخصائص الصينية
 الأخرى.