بيكاسو وسائق التاكسي

منصة 2021/05/24
...

 نهى الصراف
 
يقول صحفي متخصص في أخبار (نمط الحياة الفاخر)، إنَّ مالكي اليخوت لا يريدون الاقتراب من اليابسة هذه الأيام بسبب الوباء!
يأتي هذا في معرض حديثه عن اتجاه أثرياء العالم خلال العام المنصرم للإنفاق بدون حساب على شراء اليخوت الفاخرة للتخلص من القيود المفروضة على السفر.
هذه بداية صباح لا بأس بها، فالخبر يبدو محايداً غير مغطى بالدم ولا تفوح منه رائحة معقمات مستشفيات العزل الصحي؛ العناوين اليوميَّة التي اعتدت على تناولها مع قهوة الصباح كجزءٍ من طقس روتيني في عزاء متأخر.
على أنَّ معظم الأثرياء، بحسب الخبر، تحصلوا على أموالهم بطرقٍ شرعيَّة، وهذا سببٌ كافٍ لكنس نظرات الحسد عنهم من قبل سكان العالم الآخرين الذين عصرهم الوباء وأخرج أسوأ ما في حظوظهم، فأتى على ما يمتلكون وما لا يمتلكون.
أثرياء العالم من أفراد ليسوا وحدهم، هناك أيضاً مؤسسات تتمتع بثراءٍ فاحش، بدون سبب مقنع. دار مزادات كريستيز في نيويورك، مثلاً، باعت قبل أيام لوحة للفنان الإسباني الشهير بابلو بيكاسو بأكثر من مئة مليون دولار، جزءٍ لا بأس به من المبلغ الذي دفعه أحد جامعي التحف، ذهب رسوماً وعمولات.. ولا أعرف كم تساوي ثروة هذا الهاوي حتى يدفع مقابل لوحة واحدة فقط كل هذه الملايين من دون أنْ يرفَّ له جفنٌ، بالتأكيد، الموضوع مجرد استثمار يستحق المغامرة، لكنْ هل كان من واجبه قبل ذلك أنْ يضع جزءاً يسيراً من نقوده فيما يعد أنْ يكون مشروعاً صناعياً أو تجارياً، من شأنه أنْ يفتح باباً في الجدران الكثيرة المغلقة في وجوه الفقراء؟ لا أظن ذلك.
سيأتي من ينعتني بالسذاجة أو حتى الغباء، وهذا أمرٌ منطقيٌّ؛ فما عساه هذا المليونير اللطيف أنْ يفعل بمشروع يسبب له الصداع والضجر ويصرف في سبيله الكثير من القلق والانزعاج، لمتابعة جني ثمرات قد لا تكون بحلاوة ونضج ثمار لوحة السيدة الضجرة التي تجلس بهدوء قرب النافذة، منذ اللحظة التي رسمها فيها بيكاسو وحتى الآن.
(امرأة جالسة قرب نافذة). هذا عنوان اللوحة ذات المئة مليون دولار لسيدة تركت عالمنا منذ زمن بعيد، وهي لا علاقة لها بالتأكيد بشريكة سائق التاكسي المتخيلة التي جلست قبل أيام قرب نافذة منزلها الصغير في لندن بانتظار عودته بلا جدوى. السائق سيئ الحظ؛ أب في عقده الخمسين، فارق الحياة أثناء انتظاره داخل سيارته التي تخللت ضمن طابور طويل من سيارات الأجرة خارج مطار هيثرو، على أمل أنْ يتحصل على أجرة يومه من المسافرين والسائحين الذين يغادرون المطار ويطلبون سيارات أجرة للتوجه إلى المدينة. لكن يبدو أنَّ انتظاره قد طال حتى نهاية عمره، حتى قيل إنَّ أحداً لم يلاحظه إلا بعد وفاته بساعات!
حدث ذلك بسبب الوباء اللعين، الذي أصاب أشغال الناس بمقتل، الفقراء منهم ومحدودو الدخل خاصة.
يبدو أنَّ الأمر مبالغٌ فيه كثيراً، فهل يعقل أنْ يموت الإنسان هكذا ببساطة وهو ينتظر أنْ يقلّ راكباً مستطرقاً على جانب طريق المطار؟شيء لا يصدق نعم، لكنه يظهر كخبرٍ باهتٍ بلا طعم أمام المبلغ الذي بيعت به لوحة بيكاسو أو تكلفة تجهيز يخت للهروب من مصائب اليابسة. الوقائع تقول إنَّ هناك شحاً في المال عند بعض الناس والكثير الكثير منه عند البعض الآخر، وسيأتي اليوم الذي يفقد فيه هذا العالم توازنه بسبب الفارق بين كفتي الميزان.