متحف الموصل يستعيد ألقه وسط الرماد

بانوراما 2021/06/03
...

 جاريد مالسن
 ترجمة: أنيس الصفار 
عندما اجتاح ارهابيو «داعش» متحف الموصل الثقافي في العام 2015 ونشروا صوراً لهم وهم يهوون بالمطارق الثقيلة على تماثيل آشورية، عمرها ثلاثة آلاف سنة نظر مدير المتحف زياد غازي الى تلك الصور على شبكة الانترنت مرتاعاً. فقد كان في منزله بمدينة الموصل يخشى الذهاب الى عمله منذ ان استولى المسلحون على المدينة واعلنوها عاصمة لخلافتهم. وبلغه لاحقا ان الدواعش اشعلوا النار بمكتبة المتحف ايضاً التي تحتضن 25 ألف كتاب، فعلق: «قد أظهر ذلك عمق ما في قلوبهم من كراهية».
يعد المتحف شاهداً على التعدد الثقافي في المجتمع العراقي حاولت عصابات داعش محوها خلال سنوات تسلطها الثلاث على مدينة الموصل قبل أن تطرد منها في خريف 2017. فهذه المؤسسة العامة التي يرجع تاريخ تأسيسها الى العام 1952 تعرض 1000 عام من تاريخ العراق الماضي، مع مقتنيات كثيرة تعود الى عصور ما قبل الاسلام.
تباشر سلطات الآثار العراقية حالياً، عملية شاقة تهدف لإصلاح مبنى المتحف لكي يستعيد مكانته كمستودع حيوي مهم لتراث البلاد. وأعاد المتحف فتح ابوابه في مناسبات معينة لعرض اعمال فنية
 شخصية. 
تتيح فرصة اعادة بناء المتحف معالجة آثار الصدمات التي خلفها احتلال عصابات داعش. ويظهر التاريخ الحديث ان اعادة اعمار المعالم المميزة من شأنها مساعدة المجتمعات التي مزقتها الحروب على طي صفحة الصدمة والألم، ومن بين ذلك اعادة إعمار جسر موستار في البوسنة في العام 2004 بعد انتهاء حروب البلقان، والعديد من الأبنية في اوروبا التي دمرت خلال الحرب العالمية الثانية، مثل كاتدرائية كوفنتري في بريطانيا، التي يعود عهدها الى القرون الوسطى وكنيسة درسدن اللوثرية من آثار القرن الثامن عشر.
الموصل، التي كانت ذات يوم مدينة مزدهرة يسكنها اكثر من مليون انسان، اصبحت مقر التجربة تجربة المتشددين للحكم في العراق وسوريا، ومن الموصل نفسها أعلن زعيم داعش أبو بكر البغدادي قيام «دولته» وقد ارتدى عباءة الامبراطوريات الاسلامية التي تعاقبت عبر التاريخ.
 
ذاكرة المنارة
لقد فرض المتشددون صيغة متطرفة من الشريعة تحظر الموسيقى والغناء والتدخين، وأخرجوا المسيحيين من المنطقة وشنوا على الايزيديين ما تصفه الأمم المتحدة «إبادة جماعية». كما هاجمت داعش المواقع الثقافية ودمرت المعابد الرومانية في مدينة تدمر السورية، وقبيل اعلان نهايته الأخيرة أقدم على تفجير «المنارة الحدباء» لجامع النوري وسط الموصل والتي يزيد عمرها على 800 سنة. 
بعد ان استولى ارهابيو «داعش» على المدينة هاجموا متحفها الذي يعد ثاني اكبر مستودع عراقي للمقتنيات والآثار من عهد الامبراطورية الاشورية (حضارة سابقة لعصر المسيحية موقعها الجزء الشمالي من وادي الرافدين)، وكذلك مقتنيات من الفترة الاسلامية. خلال شباط 2015 نشرت داعش شريط فيديو يصور افرادها وهم ينهالون بالمطارق الثقيلة والمثاقب على آثار من حقب سابقة للاسلام لتدميرها، واصفين إياها بأنها «أوثان وكفر».
ترك زياد مدينة الموصل بعد فترة قصيرة من الهجوم على المتحف، الذي كان يعمل فيه منذ العام 2001. وقام بتهريب افراد أسرته الى تركيا، ثم انتقل هو الى بغداد. 
في العام 2017 عاد الى الموصل بعد معركة دامت تسعة اشهر استطاعت فيها القوات العراقية بدعم من القصف الجوي الأميركي أن تحرر المدينة من قبضة «داعش» ليجد أن اجزاء كبيرة منها قد استحالت خرائب بعد ان دمرتها المعارك، وتكشف له حجم الدمار الذي حل بالمتحف.
تجول زياد في المبنى وحطام الزجاج والحجر يتفتت تحت قدميه ليكتشف عن أن عناصر «داعش» قد فجرت شحنات ناسفة قرب منصة حجرية ضخمة مأخوذة من مدينة نمرود الاشورية. وجد ايضاً انها فجرت تمثالا يمثل ثوراً مجنحاً في حين استخدموا السكاكين لحفر عين تمثال ثان. 
في العام 2019 زار فريق من معهد سمثسونيان المتحف لتقييم حجم الضرر والشروع بوضع خطة لإعادة البناء، ضمن مشروع تعاون يشارك فيه متحف اللوفر بباريس والصندوق العالمي للآثار ومؤسسة «أليف» التي مقرها سويسرا.
 
ضرب الهوية
يعتقد «ريتشارد كيورن»، وهو عالم آثار مرموق من معهد سمثسونيان وسفير متجول مشارك بمشروع متحف الموصل، ان اعادة الاعمار قد تساعد العراقيين على تخطي الدمار الذي خلفته عصابات داعش الارهابية.
يقول كيورن: «التقاليد مرتكز صميمي لقدرة الناس على التحمل والصمود، ولهذا السبب أرادت داعش أن تدمر تلك الاشياء، لأن الضربة عندئذ ستنفذ الى صميم احساس الناس بهويتهم وحقيقة من هم».
الى جانب ترميم المبنى المدمر بشدة واجه الفريق تحدي تعريف وفرز آلاف الشظايا والكِسر العائدة لقطع اثرية مختلفة دمرتها عصابات داعش الارهابية. لهذه الغاية انشأ فريق الانقاذ مشبكاً على الأرض وأخذوا يضعون علامات ورموزا على كل كسرة وقطعة قبل نقلها بعناية الى منشأة الخزن وتأشيرها لغرض الترميم مستقبلاً وإعادة تجميعها بالممكن.
يقول «كوري واغنر» مدير مبادرة الانقاذ الثقافي في معهد سمثسونيان، الذي أسهم بإعادة تأهيل المتحف العراقي بعد تعرضه لعمليات النهب عقب الغزو الأميركي في 2003: «نحن نتعامل مع الموقف وكأنه مسرح جريمة مر عليها الزمن».
بعد ضمان أمن متحف الموصل وإصلاح السقف، الذي تعرض لقذيفة هاون، وغربلة اكوام الحجارة المهشمة بدأ زياد والفريق الذي يعاونه بوضع خطط المرحلة اللاحقة من حياة المتحف، وهذا معناه خوض صراع مع جملة من الاسئلة المتعلقة بالتاريخ والذاكرة ومكانة المتحف بالنسبة للموصل. وعلى المديرين أن يقرروا ما إذا كانوا سيعترفون ضمن ما سيعرضه المعرض مستقبلاً باحتلال «داعش» مدينة الموصل ومهاجمتها المتحف كطريقة لإحياء ذكرى المحنة الأخيرة.
يعارض زياد هذه الفكرة وحجته في ذلك هي ان من الأفضل إبراز ما حملته الينا 1000 عام من التاريخ الغني، فتلك هي نقطة التركيز الحقيقية وليس الوقوف عند فصل واحد مشحون بالعنف ثبت في نهاية المطاف انه كان عابراً، هو فصل تسلط عصابات  داعش الارهابية.
يقول: «ما نسعى اليه هو عدم تذكير الناس بالجوانب المظلمة من التاريخ لأننا لا نريد ان نغرس في عقولهم ما صنعته داعش».