إذا أردت أنْ تتحررَ من مخاوفك.. اكتبها

منصة 2021/06/06
...

   نهى الصراف
مثل مريض مستجد يبحث عن سبب علته في تجارب من سبقوه للمرض، عَدونا إلى مكتباتنا نبحث ونستقصي عن المؤلفات التي تتحدث عن الأوبئة، علنا نجد في طياتها أجوبة للأسئلة الكثيرة التي نزلت على رؤوسنا مثل شلال، بعد أنْ داهمنا وباء كورونا.
 
الحب في زمن الكوليرا لغابريل غارسيا ماركيز، الطاعون لألبير كامو، الحرافيش لنجيب محفوظ، الموقف لستيفن كينغ وهي الأحدث في زمن كتابتها حيث نشرت العام (1978)، بالتأكيد، هناك أعمال أدبيَّة أخرى لكن ليس الكثير منها.
روايات قيمّة سجلت كأعمال فردية، لكن في العموم، فإنَّ الكتابات التي تتعلق بالأوبئة تكاد لا تذكر، ومقابل مستوى الفتك والتخريب الي تحدثه الأوبئة في جسد البنية الاجتماعية للجنس البشري، لم يكن هناك الكثير من الكتابات التي تعبّر عنها؛ سواء أكانت أعمالاً أدبية أو مدونات يومية. غابت تلك المذكرات، لحظات خوف الناس وقلق العلماء وشكوكهم من المديات التي يمكن أنْ تصلها شرارة هذه الأوبئة، كما غابت مراجع وقواميس الحياة اليوميَّة التي كان يمكن أنْ يكتبها أجدادنا حتى يتسنى لنا اليوم أنْ نمدَّ أيدينا فنغرف من تجاربهم ونستقي من دروسهم، بينما نتخبط في جهلنا ونحن في مواجهة المحنة.
هناك حيلة نفسيَّة يستخدمها عددٌ من المعالجين، إذ ينصح المريض الذي يعاني ضائقة نفسية باللجوء إلى الكتابة، وتدوين يومياته حتى بتلك التفاصيل الصغيرة التي تبدو غير ذات أهمية للوهلة الأولى. نجحت هذه الوسيلة، وما زالت، في علاج عددٍ لا بأس به من المعتلين بالقلق والإجهاد النفسي، وكان التعبير السحري الذي استخدم في هذا الإطار هو؛ إذا أردت أنْ تتحرر من مخاوفك.. اكتبها.
لم تكن هناك كتابات كافية للتعبير عن زمن الأوبئة التي ابتليت بها البشرية منذ مئات السنين وحتى يومنا هذا الذي يخيم على لحظاته وباء (كوفيد – 19)، وكأنَّ الناس أرادوا أنْ يعبروا الأزمات من دون أنْ تعلق شوائبها بذاكرتهم، نوع من الهروب المدروس والدفاع المشروع عن النفس في مواجهة غير متكافئة مع مجهول. الوباء، هو عدو مجهول لا قبل لنا بمقارعته، نحن المخلوقات المغلوبة على أمرها للدرجة التي يمكننا فيها أنْ نذبح على يد أصغر وأتفه الكائنات الدقيقة التي لا يمكن أنْ نراها بالعين المجردة. فما أقساها من حقيقة.
على أنَّ (أدبيات الأوبئة) على ندرتها، فإنَّ صورة متقنة لعمل واحد منها يمكنه أنْ يتصدى لكبريات الأسئلة التي تقف في طريقنا ونحن نعيش المحنة ذاتها.
دخل البرتغالي جوزيه ساراماغو هذا العالم الملتبس، من أوسع الأبواب وأشدها ضيقاً في الوقت ذاته، فكانت روايته (العمى) سؤالاً كبيراً في جسد الخوف. يتحدث ساراماغو عن وباء لا يشبه الفيروسات التقليديَّة التي أصيب ويصاب بها البشر على مرّ العصور، تلك التي فتكت وما زالت بملايين الأرواح. وباء ساراماغو لا يقتل ضحاياه بصخب بل هو، إنْ صح التعبير، قاتل صامت يميت الروح قبل الجسد وعلى دفعات فيصبح ضحيته جسداً حياً ولا من روح. أما العمى (الأبيض) الذي داهم سكان مدينة ساراماغو، المدينة المتخيلة التي لا اسم لها، فهو عمى من نوع خاص حار الأطباء في ماهيته فهو لا يهاجم من ضعف بصره وبانت عليه تباشير ضياعه بالتدريج، كما أنه لا أصل تشريحياً له فكل من أصيبوا به ليس لديهم تاريخ مرضي أو حتى سبب منطقي لحدوث العمى، ولم يستطع المعنيون بعد ذلك أنْ يقدموا للناس تفسيراً واضحاً، بل إنَّ من أوائل ضحايا وباء العمى الأبيض هو طبيب العيون نفسه؛ «كانت حالة طبيب العيون مختلفة، ليس لأنه عمي وهو في بيته، بل لأنه طبيب، فما كان ليستسلم لليأس...».. شعر بالخوف فجأة، كأنه سيعمى في غمضة عين وقد أدرك ذلك الآن. حبس أنفاسه وانتظر، حدث بعد دقيقة عندما كان يجمع الكتب ليعيدها إلى المكتبة. أدرك في البدء أنه لم يعد قادراً على رؤية يديه، عندئذ عرف أنه قد عمي»!
ومثلما يحدث في الغالب، يتم احتجاز المصابين بوباء العمى والمخالطين لهم في محاجر كيفما اتفق إلى إشعار غير معلوم، مع الكثير من الإجراءات الصارمة والتخبط والفوضى من قبل الجهات المعنية. عندما تطول المدة، تشح الأغذية وتزداد شراسة الحراس، حتى يتحول المحجر إلى سجن، فيزداد الوباء شراسة.
إلا أنَّ وباء العمى في رواية ساراماغو، كان قد فتح البصيرة على أشد زوايا المجتمع البشري ظلمة وعفونة، حيث يظهر مجموعة من القتلة من ضمن المحتجزين يهددون النزلاء الآخرين ويساومونهم على الطعام والمأوى، ثم يستبيحون كرامتهم حتى يتحول الأمر إلى صراع من أجل البقاء مع عدم إغفال صوت العقل الذي كان يتردد على لسان المبصرة الوحيدة في المجموعة؛ «إذا كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية فدعونا نفعل ما في وسعنا كي لا نعيش كالحيوانات تماماً». لكنها هي نفسها، تلك المرأة التي لم تصبها لعنة الوباء، كانت تعاني من رؤية المشهد المخزي كاملاً، مشهد انهيار القيم؛ «ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمى»!..
وصفت وسائل الإعلام الوباء وكأنه: «سهم أطلق في الهواء، ولدى وصوله إلى مداه الأقصى سيتوقف للحظة، ثم يبدأ سقوطه الحتمي، رويداً رويداً... بالأمس كنا مبصرين، اليوم نحن عميان، وغداً سنبصر من جديد».
بالفعل، يستعيد الناس في النهاية بصرهم، لكنهم يكتشفون بأنهم كانوا عمياناً طوال الوقت ولم يكن الوباء سوى صفعة أيقظتهم من سباتهم، وبينما يتلمسون دروبهم بصعوبة، فإنهم إنما يفقدون بصيرتهم «العمى غير معدٍ، والموت غير معدٍ، بيد أننا نموت 
جميعاً».