كانت مهداً لاستخراج النفط .. أذربيجان ومراحل ازدهار متباينة

بانوراما 2021/06/13
...

 دان بيليشوك
 ترجمة: بهاء سلمان
لك أن تتخيّل صورة الأيام الأولى لازدهار النفط: ماذا يأتي على البال؟ السهول الجافة لتكساس، أو بلدات الغابات لولاية بنسلفانيا القريبة من الموقع الذي شهد حفر أول مواقع استخراج النفط الأميركي؟ أو لربما الشرق الأوسط، حيث أدى اكتشاف الذهب الأسود منتصف القرن العشرين في السعودية ودول الخليج الأخرى إلى تحويلها لمملكات نفطية.
 
قد يكون نسياننا لأذربيجان لا خطأ فيه، التي يقال أن أول بئر نفطية فيها قد تم حفرها قبل أكثر من عقد على شروع ملك المال الأميركي ادوين دريك بالبحث عن النفط الخام في تيتوسفيل بولاية بنسلفانيا سنة 1859. لم يكن من المحتمل وجود الكثير لرؤيته، فمع إشراف روسي، شقت ماكنة تصدر ضجيجا هائلا طريقها بعمق بلغ نحو 22 مترا في مستوطنة بيبي هيبات، الواقعة داخل شبه جزيرة ابشيرون على البحر الأسود.
لكن بعد فترة ليست بالطويلة، تغيّر النسيج الثقافي والاقتصادي لمنطقة بحر قزوين، بسبب أحد أكثر الحالات المذهلة لحمى البحث عن النفط، فقد ساعدت على جعل باكو، العاصمة الحالية، محورا عالميا، حيث توسم مشهدها الحضاري بخليط ثري من تأثيرات معمارية قادمة من أوروبا والشرق الأوسط. هناك ساعد النفط بتغذية أول اندفاع عالمي حقيقي جذب المستثمرين والعمال من جميع أنحاء العالم؛ وإذا تسنى للمرء أن يكون من النخبة العالمية مع بداية القرن العشرين، «كانت باكو اسما شائعا حالها حال نيويورك أو باريس»، كما يقول ايفان روبنيك، مؤلف كتاب «باكو: النفط والعمران».
 
حقائق تاريخيَّة
لم تكن حقيقة أن النفط مدفون مباشرة تحت التراب القوقازي سرا على الإطلاق، ففي الواقع، كما تشير المؤرخة «اودري ألتشتادت» من جامعة ماساشوسيتس، أن المعلومة انتشرت بين رحالة حقبة العصور الوسطى المارين بالمنطقة حول الميّزات العلاجية المزعومة للمادة. إلا أنه لغاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حينما غزت الإمبراطورية الروسية المنطقة التركية، كان النفط المتسرّب فوق سطح الأرض يرفع من قبل التجار الأوروبيين في طريقهم إلى آسيا الوسطى أو الهند، ومن ثم تحميله على ظهور الحيوانات.
ومع وضع روسيا لأهدافها الدسمة في المنطقة، وتقسيم المناطق الإدارية وتأسيس الروبل كعملة محلية، بدأت عمليات الاستكشاف المثمرة. وبعد فترة بسيطة، كما تقول ألتشادت، كانت النتيجة ممتازة لدرجة «أنهم لم يعرفوا ماذا سيفعلون بكل هذه الكميات من النفط»، التي أتت متدفقة من باطن الأرض بشكل غير مسيطر عليه.
يلي ذلك دخول تقنيات أفضل، إما مستوردة من الغرب، أو على غرار معدات الاستكشاف الغربية. وبحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، كانت الصحافة الروسية تعج بأخبار الحمى المجنونة التي كانت تهيمن على باكو، بحسب التشتادت، التي كانت في تلك المرحلة تبرز كمعقل جنوبي للإمبراطورية الروسية، وتضيف: «الافتتان الذي تملّك الجميع نحو النفط أدى في الواقع إلى حصول هجرة مهولة إلى المدينة».
من بين اولئك القادمين كان الأخوان النبيلان، لودفج وروبيرت، وقد عملا على تأسيس شركة نفط برانوبل سنة 1879. وسرعان ما سيطر لودفج وأبناؤه على العمليات، رافعين من قدرات صناعة محلية وصلت حرفيا 
إلى مستوى الخصائص العالمية. وبحلول بداية القرن العشرين، كانت أذربيجان تضخ نصف نفط العالم، متفوّقة على الناتج الأميركي.
 
تنوّع حضاري
كانت التأثيرات في باكو غاية في الأهمية، إضافة لكونها من الأساس تمثل قاعدة تجارية متقدمة في تلك الفترة؛ فمع تنمية محلية هائلة، حيث تم تنصيب أحد أوائل نظم الهواتف داخل الامبراطورية الروسية في باكو، فقد جلب الاندفاع أيضا خليطا مشوّشا بشكل مبهج لتأثيرات ثقافية إلى المدينة. ولغاية اليوم، ووفقا لأية رقعة يقف عليها المرء، وإلى أي اتجاه ينظر إليه، فربما سيجد تشابها معماريا لإيران أو جنوب فرنسا أو فيينا أو برلين، كما يقول «روبنك»، أستاذ الهندسة المعمارية في جامعة نروثايسترن، ويضيف: «انه نوع من تحدي التصنيفات البسيطة، وهو الأمر الذي يجعلها مثيرة للغاية».
لم يشمل الأمر فقط تغيير المشهد الحضري، فمع حركة ديناميكة كبيرة للمجتمع المحلي، نتج عنها في تلك الفترة أول ديمقراطية لعالم إسلامي على الإطلاق. ورغم عمرها القصير، عكست جمهورية أذربيجان الديمقراطية من سنة 1918 لغاية 1920 الطبيعة العالمية لمجتمع رأسمالي حديث النشوء، نظام تم التراجع عنه بشكل مطلق من قبل الاحتلال السوفييتي الذي أتى لاحقا.
لم يحصل ازدهار نفطي لمرة واحدة فقط في أذربيجان، التي قضت عقودا كجمهورية سوفيتية قبل استقلالها سنة 1991. 
في الواقع، شهدت البلاد ثلاث حالات من الازدهار النفطي، بحسبما يراها روبنك، تركت كل واحدة منها علامة لا تمحى من باكو وبقية أرجاء الدولة: أواخر القرن التاسع عشر، والحقبة السوفيتية، عندما موّنت منطقة أزيري على بحر قزوين القوة الشيوعية الكبرى بالطاقة، والقرن الواحد والعشرين، الذي شهد إعادة تاسيس البلاد لنفسها على المستوى العالمي كدولة نفطية لمصلحتها الخاصة.
هذه الأيام، تسعى أذربيجان الغنية بالنفط لإيجاد طرق لتحديث اقتصادها. 
وبحسب المحللين، ربما تنفيذ هذا الأمر يكون عسيرا، خصوصا لأن نظام الرئيس إلهام علييف الاستبدادي لم يبرهن عن استعداده لفعل أمر مشابه سياسيا. لكن إذا كان في التأريخ عبرة استدلالية، فلم يفت الأوان مطلقا لإحداث تحوّل جذري.