هل سيدمر الانسان حقاً الحياة على الأرض؟

بانوراما 2021/06/19
...

  سانثوش ماثيو
  ترجمة: مي اسماعيل
هل تستطيع الأنواع التي نشاركها الكوكب التكيف بسرعة كافية لمواكبة العالم الجديد الذي نصنعه لهم؟
يغير النزوع البشري النهم للاستهلاك كوكبنا والحياة عليه؛ فهل يمكننا تغيير سلوكنا؟ من بين جميع المخاطر الكارثية العالمية التي يعرفها الانسان، يتحدث الاعلام كثيرا عن بعضها دون أخرى.. لقي اصطدام الكويكبات وانفجار البراكين الكبرى والتغير المناخي عناية هوليوود؛ وهي كوارث كان لها تأثير مدمر على كوكبنا في الماضي. لكن العديد من الناس لا يعرفون أن خطرا عالميا جديدا قادرا على تدمير الحياة يختمر في ظل حياتنا اليومية، تسوقه الرغبة البشرية الهائلة للاستهلاك المادي؛ وهذا للمفارقة نتاج لحياة الانسان ذاته!
اذا نظرنا حولنا سنجد أننا محاطون (بشكل لا يتجزأ) بأشياء مادية؛ سواء احتجنا لها في حياتنا أم لا. ولكل قطعة مادية نستخدمها هناك شبكة متنامية من الفعاليات العالمية تسلب الانسان ببطء صحته العاطفية وتستنفد موارد الأرض وتعمل على تدهور موائل كوكبنا.
كتلة المنتوج البشري
قارنت دراسات حديثة بين كتل المنتجات الانسانية (المعروف أيضا باسم الكتلة البشرية) وكتلة جميع المخلوقات الحية على الارض؛ فوجدت أنه للمرة الاولى في تاريخ البشرية فاقت كتلة المواد التي ينتجها الانسان كتلة جميع المخلوقات الحية. تُقدر الدراسات أن كل انسان يُنتج من الكتلة البشرية (كمعدل) ما يفوق وزن جسمه اسبوعيا. تقول الباحثة «رون ميلو»: «وجدت الدراسة أن وزن النواتج البشرية (من البلاستيك وغيرها) توازي المخلوقات الحية، وحقيقة أن تلك النواتج تزداد تراكما وبسرعة؛ مما يعطي منظورا واضحا آخر عن أن الانسانية باتت لاعبا رئيسيا في تشكيل وجه الكوكب. الحياة على الارض تتأثر كميا بشكل كبير بأفعال البشر». 
هذا الكشف لم يكن مفاجئا لكثير ممن يعدون أن البشر بدؤوا بالفعل حقبة جيولوجية جديدة تسمى «الأنثروبوسين  - Anthropocene” أي- عصر البشر؛ وهو مصطلح عممهُ الكيميائي الحائز على جائزة نوبل «بول كروتزن». ورغم أن دقة تحديد بدء هذه الحقبة محط جدل؛ فلا إنكار أن البشر أصبحوا قوة مهيمنة على هذا الكوكب، وغيروا كل أشكال الحياة الأخرى من خلال أفعالهم. 
يثير حجم ومقياس المادة «الأنثروبوسينية» (بشرية المنشأ) القلق؛ كالبلاستيك مثلا.. كانت ولادة حقبة البلاستيك الحديثة عام 1907 فقط؛ لكننا ننتج اليوم نحو 300 مليون طن منه سنويا. كما إن كون الكونكريت (بعد الماء) هو المادة الاكثر استخداما على الارض أمر يصعب ادراكه.
اتخذ الاستخدام الجيو-هندسي الذي بدأه الانسان منحى تصاعديا مُعجّلا حينما باتت مواد مثل الكونكريت وتنويعاته متوافرة بشكل واسع. تشكل تلك المواد مكونا أساسيا لنمو الكتلة الأنثروبوسينية؛ وحتى المغامرات البشرية الحديثة نسبيا مثل غزو الفضاء، التي بدأت منذ نحو ستين عاما؛ باتت تشكل مشكلة نفايات فضائية كارثية. وبجانبها بتنا نلاحظ ذوبان الغطاء القطبي والجليد القديم وارتفاع درجات الحرارة عالميا؛ فهل أن تراكم المادة الأنثروبوسينية مجرد مقياس لمعدل زوال البشر؟ أم أن الطبيعة ستجهز البشر لمواجهة تلك المشكلة؟ انها أسئلة غير محلولة إلى حد كبير.
حضارة هشة!
رغم وجود دلائل أن التوجه المادي أمر يتم تعلمه وتشكيله عن طريق الثقافة؛ هناك من يجادل بأن الانتقاء الطبيعي قد يكون قد أهلّ جنسنا البشري للرغبة في تجميع الأشياء. تعطينا ممتلكاتنا المادية احساسا بالأمان والمكانة التي لعبت دون شك دورا مهما في وقت مبكر من التاريخ الانساني. بطريقة ما أصبح ابتكار الاشياء الجديدة «كلمة مقدسة» في النفسية البشرية الجماعية، متربعة بشكل بغيض في جميع مساعينا؛ من القصص القديمة إلى غرف البحث والتطوير الحديثة. واصبح البشر مؤهلين للاعتقاد أن خلق أشياء جديدة هدف ذو معنى في الحياة، والطريقة الوحيدة لدفع طموحهم قدما؛ لكنهم نسوا أن يضعوا حدودا للاستخدام.
لم تكن حدود العلم أكثر وضوحا في أي وقت مضى مما هي عليه عند محاولة حل هذا المأزق. وحتى لو استطعنا إحلال المركبات الكهربائية محل تلك المعتمدة على الوقود الاحفوري (على سبيل المثال)؛ فإن المدن تكافح بالفعل لاسترداد مساحات الطرق من المركبات، كما ان المركبات الكهربائية لديها بصمتها الخاصة على مصادر العالم، بسبب المواد اللازمة لصناعتها.
انظروا الى بصمة الكربون التي تخلفها اجهزتنا والانترنت وأنظمته المساندة؛ انها مسؤولة عن اربعة بالمئة من انبعاثات الغاز الدفيئة عالميا، ومن المتوقع مضاعفة هذه النسبة بحلول عام 2025. من الممكن تقليل الانبعاثات بالاستغناء عن ارسال رسالة الكترونية واحدة (ايميل) أو صورة غير ضرورية على مواقع التواصل الاجتماعي. قد يبدو هذا أمرا غير ذي شأن من شخص واحد؛ لكن تراكم مليارات من تلك الافعال الصغيرة يحقق الكثير.
تدّعي كبريات شركات التكنولوجيا أنها تتجه للتقنيات الخضراء أو تضع أهدافا لتحييد الكربون؛ لكنها نادرا ما تشجع الناس على قضاء وقت أقل في التواصل الاجتماعي أو شراء منتجات أقل. بل غالبا ما تُعلن عن نماذج تجارية برسائل قوية تعزز مفهوم الابتكار ومزيد من الاستهلاك. هذه النزعة المادية الوحشية اللاعقلانية متأصلة بعمق في التقاليد والرموز الثقافية العالمية. في عصر الأنثروبوسينية يندفع الناس لتعليق آمالهم على التكنولوجيا لحل مشكلاتهم؛ كي يتمكنوا من الاستمرار بنمط حياتهم. ذكرتنا جائحة كورونا بهشاشة الحضارة الانسانية وعدم استعدادها لمواجهة حتى ما نعرفه سابقا: وباء معروف. وعلمتنا أيضا أن السلوك البشري قابل للتعديل بتصرفات بسيطة (كارتداء الكمامة) للتخفيف من حدة المآسي العالمية.
 
فقدان البيئات الطبيعيَّة
المقاربة السلبية تجاه تراكم الكتلة البشرية لا ترجع فقط إلى نقص المعرفة بتأثيرها؛ بل تتعلق أيضا عموما بميل الإنسان لرفض الحقائق التي لا تتناسب مع رؤيته للعالم. إذ يميل البشر بطبيعتهم لتجاهل القضايا التي لا تتحدى حياتهم اليومية أو تضعف راحتهم. قد يجد الانسان العزاء في فكرة أن الطبيعة ستؤهل العضويات للبقاء؛ مهما كانت أفعاله. بالفعل؛ يحدث التطور التدريجي البطيء (كما رآه داروين) عبر الانتقاء الطبيعي في بيئات معينة عالية التلوث؛ إذ وجد فريق ياباني عام 2016 نوعا من البكتيريا في معمل لإعادة تدوير القناني قادرا على تفتيت البلاستيك وتمثيله غذائيا. ولعل المحيطات تزداد حامضية بمعدل يتسارع اليوم عما جرى منذ 300 مليون سنة؛ بفعل الاداء الانساني أساسا. كما تسارع معدل فقدان البيئات الطبيعية وتلوثها؛ مما أثر في باقي المخلوقات الحية رغم تنوع قدراتها على التكيف مع المتغيرات، وتكيفها لن يُجاري سرعة تغير بيئاتها. وإذا واصلنا التصرف بهذه الطريقة، فقد لا نعيش طويلا، فهل ستستيطيع الأنواع التي نشاركها الكوكب التكيف بسرعة كافية لمواكبة العالم الجديد الذي نصنعه لهم؟.
 
صحيفة ديلي تلغراف البريطانية