«خِلوّ».. عالمٌ من المتخيل والغرائبيَّة

منصة 2021/06/20
...

  يوسف عبود جويعد
يبدو لنا ونحن نتابع رواية (خِلو) للروائي طه حامد الشبيب، أن عملية إخضاع المادة الخام التي يحصل عليها السارد، لا يمكن لها أن تكون عملا روائياً متكامل الأبعاد، ما لم يتدخل الروائي لوضع اللمسات الفنيَّة التي تسهم في إنضاجه، وخروجه من شرنقة المباشرة إلى عالم فن صناعة الرواية، إذ إن من المهمات الأساسية التي يجب أن يتحلى بها الروائي، هي قيامه بقدر معرفته ووعيه وخبرته ودقته وأفكاره أن ينقل هذه المادة الخام إلى عالم السرد، الذي يستوعب برحابة عالية الوقائع ليحيلها إلى رؤية فنية تظهر من خلالها الجهد الذي يبذله في عملية بناء النص، واللمسات السحريَّة التي يضعها كحالة متممة لعملية البناء.
 وهكذا يمكن للعمل الروائي الظهور بمظهر يليق وعملية التطوير والتجديد والتحديث، الذي شهده هذا الجنس من متغيرات حداثويَّة، في عملية صناعة الرواية، ومن هنا يمكن لنا أنْ نلجَ إلى هذا النص السردي، حيث أبلى الروائي طه حامد الشبيب بلاءً حسناً في توظيف وإدخال بعض العناصر والأدوات والمكملات السردية التي تنظم مع الأدوات الأساسيَّة التي تتطلبها عملية تدوين النص السردي، فقد حدث لهذا النص السردي أكثر من نقلة نوعيَّة وفنيَّة وحرفيَّة، لتحيله إلى عالمٍ آخر، عالم ساحر، عالم فنتازي، عالم غرائبي، عالم عجائبي، ويأتي ذلك من أجل رسم الملامح الواضحة للثيمات والأحداث التي تضمنها هذا العمل، فهي أحداثٌ كبيرة وواسعة حدثت في هذا البلد، وظهرت من خلال مبنى السرد حالة القلق والخوف من الأحداث التي حدثت في الماضي والحاضر والمستقبل، وهو الخطاب الأول الذي يحسه القارئ وهو يتابع حركة السرد، وكذلك نجد الخطاب الوطني، والخطاب الاجتماعي، والخطاب الأدبي، واضحة فيه، وكذلك الخطاب السياسي، الذي أولاه أهمية قصوى.
وقد ابتعد الروائي عن المباشرة في  تسمية بعض المدن، وحتى البلد الذي عده الخصم في هذا النص، إلا أنَّ القارئ يستطيع أنْ يكتشف هذا البلد من دون أي جهد، لكون بطل هذه الرواية حاتم الديّو واحداً من مقاتلي حرب الثماني سنوات، وسوف ينضم إليه لاحقاً واحد من البلد الآخر ونشأت بينهما علاقة حميمة لتقارب أفكارهما من بعض ونبذهما للحرب الدائرة بين البلدين، وصعودهما إلى الأعلى ووقوفهما فوق سديم مترجرج لنقل وقائع الأحداث بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأطلق عليه حاتم أخوي، ليكون هذا اسمه على امتداد مسار الحركة السردية:
(أما أنا الذي أوكل لنفسه لمَّ شتات هذه القصة المبعثرة، فإنَّي لأشعر بعدم ارتياح ضمير بخروجي عن سياق حقيقة ما يجري وأنا أطلق على صاحب حاتم الدَيو (الجندي العدو).. كيف يرتاح ضميري ويهنأ باستخدام هذه التسمية بعد الذي حدث للتو بين الجنديين؟! لا.. لا.. لن ترد هذه التسمية بعد الآن. تسمية حاتم الدَيو لصاحبه أصوب، وأقرب لحقيقة الأمور) ص 26
ومن خلال بنية العنونة (خِلوّ) التي اختارها الروائي بكل عناية وإتقان، وهي عتبة نصية موازية للنص السردي، فالخِلوّ هنا يعني اعتكاف الناس في بيوتهم وعدم مغادرتها للمخاطر التي تحيق بهم، وأهمها الكائنات الفضائية السوداء الصغيرة التي نزلت من الفضاء إلى الأرض، وهي تنهش وبشكل وحشي لحم الإنسان الذي يغادر بيته ولا يبقى فيه سوى هيكل عظمي، وبدون رحمة، إلا أنَّ المفاجأة في هذا الأمر أنَّ هذه الكائنات تفترس الكل باستثناء الشبان والرجال والنساء الذين اشتركوا في الهيجان الكبير، لأنهم يحملون تراب ساحة التظاهرات، وكذلك لا تفترس أصحاب الاحتياجات الخاصة، ومن هنا نستشف الرؤية الفنية التي وضعها الروائي لهؤلاء الشباب الذين تفاجأ الوطن بثورتهم المباركة، وهنا أود الإشارة إلى أنَّ الروائي لم يدخل حيز المباشرة في هذا الأمر بل أطلق عليهم أصحاب الهيجان الكبير، وظلت هذه التسمية ملازمة لظهورهم في متن النص، ثم تدور الأحداث وتكبر ضمن طيف متنوع من النسيج السردي، الفنتازيا، الغرائبية، العجائبية، حيث بلغت عدد صفحات الرواية 340 صفحة من الحجم المتوسط، وظل السرد يطوف بشكل مكثف وزاخر بالأحداث الكبيرة التي تخص البلد وما حدث فيه، وذلك الانتقال إلى البلد الآخر، الذي يضع الروائي رؤيته الفنية الفكرية من خلالها، بأنه السبب الرئيس في هذا الخراب، ومن خلال ما يرويه لنا حاتم الدَيو، وكذلك بعض الرواة ومنهم الأستاذ المعلم، ونشمية أم الخبز، وآخرون، وتدور أحداث كبيرة، بعدها يظهر النفق الذي أنشئ من البلد الآخر لشفط كل شيء من هذا البلد، معامل ومنشآت ومصافي نفط، ثم تنطلق معارك كبيرة بين شبان الهيجان الكبير والبلد الآخر، مع دخول كائنات كبيرة أيضاً داخل هذه المعارك، ويهتدي بعض من أفراد الشعب من النساء والرجال، إلى تعفير أجسادهم بتراب الهيجان الكبير لكي يستطيعوا الظهور والمشاركة في معارك النفق.
رواية (خِلوّ) للروائي طه حامد الشبيب، عمل فني يظهر فيه الجهد الفني واللمسات الساحرة التي أحالت العمل إلى عالمٍ من التخييل والمتخيل ومن الغرائبية والعجائبية والفنتازيا.
من إصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2021.