ربما كان ذاك في مطلع ثمانينيات القرن السابق عند دخولي اول معرض للكتاب في بغداد ابان ارتقاء صدام لعرش طغيانه واشعال نار اطول حرب عرفها التاريخ المعاصر كان وقودها الانسان والعمارة والتاريخ والقيم العراقية والايرانية على حد سواء ..ولان الدولة البعثية الدكتاتورية هي دولة ابوية بطريركية تملك الارض وما عليها ،فلم تشذ معارض الكتاب وادارته وتسويقه اعلاميا ودعوات الضيوف العرب والاجانب عن تلك السطوة البطريركية ...كما ان الحرب وقسوة الفاشية تلقي بضلالها بشدة بين اروقة المعارض بوصفها بيئة ثقافية بامتيازكانت تخشاها عيون السلطة وتراقب روادها واذواقهم بما يشترونه من الكتب بعيون الصقر وبمن يتصلون واية اجنحة يترددون عليها. ابرز الملاحظات التي ماتزال عالقة في ذاكرتي من تلك المعارض :
1 - مئات من الصور (السلفي) يلتقطها الاصدقاء في اروقة معرض بغداد الدولي للكتاب لانفسهم او مع مشاهير الادباء والكتاب...اتحسر على غياب اية صورة عن معارض الكتاب العراقي التي اقيمت في ثمانينيات القرن السابق عبر الكاميرا الجوالة او اي وسيلة اخرى باستثناء ما كانت تنشره صحف النظام الانتقائية منها حسب سياستها الاعلامية الانتقائية ..وهذه خيانة تضاف لخيانات المثقف العراقي البصرية لظاهرة موسمية ينتظرها المثقفون العراقيون بفارغ الصبر بين عام واخر ليتنسموا منها عناوين وافكارا محظورة وممنوعة في بلادهم.
2 - رغم اهمية الاسماء التي تم استضافتها في هذا المعرض من ادباء وباحثين ومفكرين فغالبا ما تخلو القاعة التي خصصت لعقد الندوات من الجمهور رغم اهمية موضوعاتها فمثلا حضرت مساء الجمعة وهو يوم مزدحما برواد المعرض الى ندوة مع المفكر البحريني نادر كاظم كانت تخلو من الجمهور الا بعدد اصابع اليد،لاتقاس بالجمهور المحتشد بين كراسي رضا علون وهم يحتسون الشاي والقهوة ويثرثرون بينهم .
3 - كانت عيون الرقابة البعثية الصارمة تغفل احيانا عن بعض العناوين التي تتسلل لاجنحتها دون علمهم منها ما يفضح دكتاتورية سلطتها او تاتي بكتب لكتاب عراقيين محظورة كتاباتهم هنا ...فتلجأ في مثل هذه الاحوال اما الى المصادرة باخفاء هذه الكتب عن العيون وتضعها تحت الطاولات او بملاحقة من تمكن من شرائها ..حدث ذلك لكتاب المفكر العراقي المقيم في باريس المهدي (البحث عن منقذ) من منشورات دار ابن رشد وكتب اخرى في المذكرات والسياسة والجنس
4 - كان اغلب رواد معارض الكتاب من الشباب وطلاب الجامعات تحديدا وهم في اغلبهم فقراء الحال لايتمكنون من شراء مالذ وطاب من اصانيف المؤلفات التي تعرض نفسها باغواء شديد على واجهات معارض دور الكتب فلجأ بعض الاصدقاء لحيلة شرعية تمكنوا من خلالها من شراء ما يحتاجونه باسعار بخسة وذلك بشراء كراريس حزب البعث شبه المجانية واخراج بنفس عددها الكتب المطلوبة الغالية في محتواها واسعارها لان الموظف عند الباب الخارجي في الغالب عادة ما يحسب الاعداد ولا يدقق باسماء الكتب وعناوينها ولكن فشلت بعض المحاولات واحيل البعض للجهات الامنية في وقتها .
5 - كانت الانظمة الفاشية كالنظام الليبي تحظى باجنحة انيقة في معارض الكتاب العراقي لكنها فارغة من اي عنوان مهم ومفيد فمثلا كان الكتاب الاخضر يغطي الجناح الليبي بينما كتب الفيلسوف الليبي العقلاني الصادق النيهوم وروايات المبدع ابراهيم الكوني تباع في اجنحة اخرى ،انا شخصيبا مازالت احتفظ بنسخة انيقة مجلدة من الكتاب الاخضر التافه اخذته مجانا والذي يظهر وهم الزعيم الدكتاتور بنفسه ..
نحمد الله الذي ابقانا ليوم وجدنا ان معرض بغداد الدولي للكتاب يدار ويمول من جهات خاصة وباشراف اتحاد الناشرين العراقيين وهو جهة مدنية بامتياز ومعها نشاط وهمة الناشرين العراقيين التي تطورت خلال السنوات المتاخرة تطورا كبيرا وملحوظا ،بل ان مساهمة الحكومة في هذه الدورة والدورات التي سبقتها كانت هي الاضعف في هذه الفعالية الثقافية المهمة .