قراءة في قصيدة {مقام نهاوند} لمحمد صابر عبيد

منصة 2021/06/24
...

 د. فيصل القصيري
 
(مقام نهاوند) نصّ شعريّ جريء يقدّمه محمد صابر عبيد بلغة متموّجة على الصعيد اللسانيّ والبلاغيّ والشعريّ، إذ هو الشرارة الأولى لثورة شعرية على التقليد والتكرار والتراكم في شعرنا العربي ستحرق غابات من النماذج الرديئة المحسوبة على الشعر، غابات كلّها أشواك وأدغال يابسة، ومياه آسنة وأشنات وزبد، لقد استهلك الشعر العربيّ نفسه وهو يعيد إنتاج نماذجه بنمطيّة أثقلت كاهله وحطّت من قيمته، وتأتي هذه القصيدة لتنتج صيحة عالية الإيقاع لتحفيز المجتمع الشعريّ ومجتمع التلقي معاً على نزع الرداء القديم تماماً، والتوجّه نحو التعاطي مع مفهوم جديد للشعر يتلاءم وطبيعة العصر المشحون بالتجاوز والانطلاق، ولا شكّ في أنّ القصيدة مكتظّة بألوان التحريض وتهشيم الذهنيّة الصنميّة والانفتاح على هواء جديد خالٍ من التكرار العقيم والدوران في حلقة فارغة لم يعد فيها ما يثير:
قلْ ما عندكَ بملء شفتيكَ
لا تخفْ من ألغام الأغلاط اللغويّة المحتمَلَةِ
فسيبويه يَلحَنُ والكسائيُّ أيضاً
وديوان المتنبي محتشدٌ بالأكاذيب والترّهات
البحورُ الشعريّة هياكلُ مهجورةٌ 
صارتْ بعيدة جداً عن طُرق القوافل السريعةِ
وفقدتْ نجومُها ما عَلِقَ بها من بريقٍ عتيق.
انزعْ أسمالك وامسحْ من جِلدِ كلماتك الغبارَ
اهبط إلى أسفل السطر الفارغِ
وجرّب أن تقرأ الكلامَ الممحوَّ
وتضعَ ما يجب من الفواصل والنقاط والأحلام
لا تنشغل كثيراً بالإعرابِ
 حين ترى ضالّتك تحبو بين يديك مثل غزالٍ وليدٍ ووحيدٍ
اغرفْ من حليب الضوء ما تشاء
وغذِّ عروقَ الحروفِ بما تيسّر من رحيقِ النورِ
هكذا تستقيم لك الأشياءُ وتُوردُ الإبل.
اللغةُ لغاتٌ
كلّ لغةٍ تلعنُ أختَها وتعرّيها
لغةُ التراكم صارتْ عقيمةً لفرط أكداسها العمياء
كِدسٌ فوق كِدسٍ فوق كِدس
اختلط التمرُ فيها بالخنافس الميّتة
تغيّرتْ تحتك الأرضُ 
والسماء فوق رأسك غير السماء
لا تثق بالحصى القديمِ
إذ فَقَدَ أسنانَه ولم يعد قادراً على الضحك
فالشمس حين تغيبُ تندثرُ إلى الأبد
لتأتي في الصباح اللاحق شمسٌ أخرى
أخرى تماماً.
ترسم هذه القصيدة خارطة طريق جديدة للكتابة الشعرية بعيداً عن الترهات والتفاهات والفقاعات التي عطلت مسيرة الشعر العربي إلى أمام، وجعلته محض أكداس عمياء كرستها لغة التراكم العقيمة التي أعاقت حركة التطوّر العقلي، إذ تفضح القصيدة كثيراً من طبقات هذا الاجترار الوزنيّ والتفقويّ والاعتماد على مجد لغوي قديم أهلكه الزوال، وبما أنّ القصيدة مكتوبة بحساسيّة شعرية عالية فهي لا تدعو إلا إلى لغة شعرية تستعين بالفكر والوعي والتجربة والرؤية، كي تكون بديلاً ناضجاً يسهم في حركة التجاوز التي تدعو إليها القصيدة، بمعنى أنها لا تدعو إلى التبسيط والتجهيل بل على العكس تطالب بنصوص شعرية عالية المستوى والمقام، تتفوق على ما قبلها بمعيار شعريّ مغاير يعبر من فوق التقليد والمحاكاة والعيش السهل في كنف الأجداد بهذا الكسل المتفاقم المهين.
تعمل الصيغ الأمرية في النص نحو (قل/ انزع/ اهبط/ جرب/ اغرف/ غذ) فضلا على صيغتي النهي (لا تخف/ لا تنشغل) على فرض هيمنتها التعبيرية على فضاء التلقي، وتجعل من الناص نفسه ناقدا ومعلما وحكيما اختزل نظريته في هذا النصّ الشعري، وهو يحمل رسالة التغيير والتحديث والثورة والتسلّح بالشجاعة والبسالة.
ولعلّ أجمل ما في النص هو:
 أغرف من حليب الضوء ما تشاء 
وغذ عروق الحروف بما تيسر من رحيق النور
 هكذا تستقيم لك الأشياء وتورد الإبل
 إذ تجد صورة النص الجديد الذي يسعى إليه الناص خليطاً من العناصر الثلاثة الذوقية والشمية والبصرية، وعلى هذه الصورة يجب أن يكون هذا النص، وثمة تقابل وتماثل بين الاسمين القائمين على الإضافة وهما: حليب الضوء ورحيق النور، فحليب ورحيق تشيران إلى لذة النص عند قراءته، والضوء والنور يشيران إلى بهجة وجمال النص وتألقه، عندئذ يكون النص الجديد شبيها يغازل الأشياء وليداً ووحيداً بلا ماضٍ يعيق حركته وتدفقه وخياله.
أما جملة (وهكذا تستقيم لك الأشياء وتورد الإبل) فإنّها تدل على أنَّ ما يكتبه الآخر بحاجة إلى تصحيح يضع الأشياء في موضعها الصحيح، وهي تنطوي على إشارة إلى مثل عربي بهذا المعنى، والخلاصة أنّ هذا النص جاء ليكون تأكيدا وتجديدا لبيان موت الشعر الموزون الذي نشره سابقاً الناقد عبيد، إذ هو في مناسبات كثيرة يدعو فكرياً إلى الثورة على الأسمال البالية والتحرك الجمالي النوعي في دائرة العصر، إذ إنّ (مقام نهاوند) يقترح موسيقى مغايرة وإيقاع مختلف ولغة عصرية تلامس طرافة الحياة وحساسيتها، ولا شكّ في أنّ القصيدة الجديدة التي يدعو لها هذا المقام لن تكون سهلة بل على العكس هي في غاية الصعوبة، ولن ينجح فيها إلا القليل النادر كما يشير الناقد عبيد في مناسبات نقدية سابقة كثيرة.