تعود إلى ثمانية قرون سابقة .. الجذور الأفريقيَّة للتصميم السويسري

بانوراما 2021/06/29
...

 أودري بينيت 
 ترجمة: مي اسماعيل
بقيت مهنة التصميم مهنة «بيضاء» لوقت طويل، وبقي وجود السود فيها قليلا؛ إذ لم يمثلوا سوى نحو ثلاثة بالمئة من العاملين فيها؛ وفقا لمسح أجري عام 2019. هذه المفارقة ليست بالجديدة؛ فلعقود خلت جرى تشخيص «بياض» حقل التصميم كمشكلة نوقشت علنا منذ أواخر الثمانينات؛ حينما تحدث عدد من الدارسين السود للتصميم الغرافيكي (ممن يستعدون لدخول المهنة) عن شعورهم بالعزلة وغياب التوجه. 
قد يعود جزء من نقص التمثيل ذاك الى حقيقة أن مبادئ التصميم السائدة بدت وكأنها مستلة بشكل وثيق من التقاليد الغربية، وذات أصول مزعومة من اليونان القديمة؛ وأعدت مدارس ألمانيا وروسيا وهولندا التصميمية نماذج مثالية في الميدان.. وبذا بدا أن “الجماليات السوداء” غائبة تماما.. ولكن ماذا لو أن الجماليات الأفريقية الفريدة كانت متأصلة عميقا في التصميم الغربي طيلة الوقت؟ كشفت دراسة أجرتها كاتبة المقال بالتعاون مع استاذ التصميم «رون اغلاش-Ron Eglash»، مؤلف كتاب «منحنيات أفريقية- African Fractals» عن أن أسلوب التصميم الذي يقوم عليه الكثير من قواعد مهنة تصميم الجرافيك اليوم؛ خاصة تقليد التصميم السويسري، الذي يستخدم النسبة الذهبية؛ قد يحمل جذورا من الثقافة الأفريقية.
 
النسبة الذهبيَّة
تشير النسبة الذهبية «فاي» الى التعبير الرياضي «1: phi»؛ إذ يمثل «فاي» عددا غير نسبي يساوي تقريبا (1.618). يمكن تمثيل هذه النسبة بصريا بالمستطيل الذهبي،حيث تكون نسبة الضلع «a» إلى الجانب «b» نسبة الأضلاع نفسها 
«a» + «b» إلى «a».  وإذا رُسِم مربع على جانب المستطيل الذهبي فسيكون الفضاء المتبقي مستطيلا ذهبيا آخر، وحين تكرار العملية مع كل مستطيل ذهبي جديد واجراء التقسيم بذات الاتجاه، نحصل على حلزون (أو لولب) ذهبي؛ وهو التمثيل الأكثر شيوعا وتميزا للنسبة الذهبية. تسمى هذه النسبة بالذهبية أو «السماوية» لأنها مريحة للنظر، ويرى بعض الباحثين أن العين البشرية يمكنها بسهولة فهم وترجمة الصور والأشكال المدمجة فيها. لكل تلك الأسباب نجد النسبة الذهبية والمستطيل والحلزون مدمجة في تصاميم الفضاءات العامة وتتم محاكاتها في العمل الفني بقاعات المتحف وتعليقها على جدران المعارض. وهي أيضا منعكسة في الطبيعة والعمارة والتصميم، وتشكل مكونا أساسيا في التصميم السويسري الحديث.
انطلق اسلوب التصميم السويسري منذ القرن العشرين من اندماج الجماليات الروسية والهولندية والألمانية، وهو يعد واحدا من أهم الحركات في تاريخ تصميم الغرافيك، كما شكّل أساسا لنهوض التصميم الغرافيكي الحداثي في أميركا الشمالية. يقوم تصميم خط «هيلفيتيكا-Helvetica» الطباعي الذي نشأ في سويسرا على استخدام النسبة الذهبية، وكذلك الحال بالنسبة لتكوينات الغرافيك (من الاعلانات حتى أغلفة الكتب وصفحات الويب والملصقات) السويسرية؛ التي تستخدم المثلث الذهبي عادة. وبنى المعماري السويسري “لي كوربوزييه” فلسفته التصميمية على النسبة الذهبية؛ التي وصفها بأنها.. «ملحوظة في تكوين الإنسان بحتمية عضوية». 
 
نقض الأصول اليونانيَّة
درج باحثو التصميم الغرافيكي، الذين يمثلهم بشكل خاص باحث العمارة اليوناني «ماركوس فيتروفيوس بولو» لنسب الفضل إلى الثقافة اليونانية المبكرة في دمج المستطيل الذهبي ضمن التصميم. واعتادوا الاشارة الى البارثينون (معبد اغريقي شهير. المترجمة) لكونه مثالا متميزا لمبنى جرى توظيف النسبة الذهبية في إنشائه. لكن القياسات التجريبية لا تدعم النسب الذهبية المزعومة للبارثينون، إذ إن نسبته الواقعية (4:9)، وهما عددان صحيحان. نشير هنا الى أن الاغريق، خاصة عالم الرياضيات «إقليدس»، كانوا يعرفون النسبة الذهبية؛ لكنها ذُكِرت فقط في سياق العلاقة بين خطين أو شكلين؛ ولم يستخدم مصدر إغريقي مصطلح «المستطيل الذهبي» أو يقترح استخدامه في التصميم. في الواقع شددت الكتابات الاغريقية القديمة عن العمارة بصورة شبه دائمة على أهمية استخدام نسب الأرقام الصحيحة، وليس النسبة الذهبية. فبالنسبة للإغريق مثلت نسب الأرقام الصحيحة المفاهيم الأفلاطونية للكمال؛ لذا من الأرجح كثيرا أن البارثينون قد تم بناؤه وفقا لهذه المُثُل. 
 
الحلزون الذهبي في أفريقيا
إن لم يكن أصله بلاد الاغريق القديمة؛ فمن أين إذا نشأ المستطيل الذهبي؟ تميل تطبيقات التصميم في أفريقيا للتركيز على النمو من الأسفل الى الأعلى، والأشكال العضوية الكسرية.
إذا نظرنا لقصر رئيس قبيلة في لوغون بيرني بالكاميرون، نجد أن ترتيب مواقع غرفه كان باستخدام شبكة كسورية تتميز بتكرار الأشكال المتشابهة بمقاييس تتناقص باستمرار. كما لاحظ «اغلاش» في كتابه «منحنيات أفريقية» أن مسار زائر القصر يتطلب التحرك ضمن فضاءات ترسم مسار حلزون ذهبي. التكوين التكراري للقصر (من المستطيلات الصغيرة إلى المستطيلات الأكبر فالأكبر) يفسح المجال بشكل طبيعي لوجود المستطيل الذهبي لضمن الشكل العام؛ رغم أن التطابق على طول أي جدار بعيد عن الكمال. هذا الاسلوب للعمارة عضوية النمو أمر نمطي في توقيع المباني الافريقية؛ إذ تتضمن العديد من أنماط تصاميمها مقاييس عضوية؛ ربما لأنها ترتبط بمفاهيم النمو والخصوبة والقرابة بين الأجيال، الشائعة في الفن والثقافة الأفريقية.
 
فيبوناتشي وأوروبا
يشير «روبرت برينجهيرست «مؤلف المصدر المرجعي» عناصر أسلوب الطباعة» تلميحا إلى الأصول الأفريقية للنسبة الذهبية قائلا: «اذا نظرنا الى المقاربة الرقمية لنسبة «phi:1» سنجد متوالية فيبوناتشي، المنسوبة الى العالِم والرياضي من القرن الثالث عشر (المولود في بيزا، لكنه درس في شمال أفريقيا). ورغم وفاته قبل «غوتنبيرغ» بقرنين فقد كان له أثر مهم في تاريخ اوروبا الطباعي والرياضي». 
ظهرت أنماط المقاييس تلك في تصاميم المصريين القدماء، وأظهرت الدلائل الأثرية أن تأثيرات أفريقيا الثقافية انتقلت على مسار النيل. وجد عالم المصريات «أسكندر بدوي» متوالية فيبوناتشي ضمن تصميم معبد الكرنك، الذي جرى ترتيبه بذات نظام نمو القرى الأفريقية؛ بدءًا من مذبح مقدس (أو النواة) قبل تجمع أشكال أكبر حولها بنسق حلزوني الى الخارج.
سافر فيبوناتشي خصيصا الى شمال أفريقيا ليدرس الرياضيات؛ فليس من غير المعقول التكهن بأن فيبوناتشي جلب المتوالية من هناك. ولم يكن ظهورها الأول أوروبيا لدى الاغريق القدماء، بل في «Liber Abaci»، كتاب فيبوناتشي عن الرياضيات والحسابيات المنشور في إيطاليا عام 1202. والمغزى..؟ حين يسعى البعض للعيش في عالم عادل ومنصف وسلمي؛ من المهم استعادة إحساس أكثر تعددا للثقافات عن التاريخ الفكري، 
لا سيما ضمن قانون التصميم الجرافيكي. وحينما يرى طلبة التصميم السود تأثيرا أسلافهم؛ لعلهم سيكونون أكثر الهاما وتحفيزا لاستعادة ذلك التاريخ، والبناء على تراثه.