{غــداً باتـجـاه الأمس».. صيحــة انتـبــاه تـاريـخيــة

منصة 2021/06/29
...

 إعداد: الصباح
ليس عنواناً لديوان شعر وليس استشرافاً لما قد يحصل غداً للعراق، بل هو عنوان فيلم سينمائي وثائقي جديد يوشك أنْ ينتهي العمل فيه في أوروبا. ونحن هنا لا نتحدث عن الفيلم، فهذا شأن سينمائي في تيار الفيلم الوثائقي، ولكنْ أهمية الفيلم تكمن بقدر ما يحتويه الفيلم من الوثائق التي تمثل الذاكرة العراقيَّة المرئيَّة، وهو شأن خطير في تاريخ العراق، توليه البلدان التي قطعت شوطاً في مضمار المدنية والتشبث بالتاريخ الإنساني، اهتماماً بالغاً.
إذ قامت مؤسسات الوحدة الأوروبية الثقافيَّة بجمع كل ما هو مصور سينمائياً في مساحة أوروبا، وعلى قياسين 35 مليمتراً و16 مليمتراً بقسميه السالب والموجب على جميع الاستوديوهات الأوروبيَّة الحديثة للقيام بترميم هذه الأفلام، إذ تعرضت بسبب الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى التلف الجزئي والكلي أحياناً وبوشر بالترميم وتصحيح الألوان والأصوات ومن ثم يتم حفظ الفيلم السالب بدرجة حرارة خمسة تحت الصفر والموجب بدرجة حرارة خمس مئوية وفي مؤسسات أرشيفيَّة بعيدة عن الرطوبة والغبار ومحمية بأجهزة تحول دون تعرض الأفلام للرطوبة أو الغبار الذي يؤثر سلباً في فيلم السليلويد.
 
الحياة العراقيَّة
نتحدث هنا وكان في مساحات بغداد كم هائل من الأفلام السينمائيَّة المصورة، لا نعني بها الأفلام الروائيَّة، بل ما كان يصور في الجرائد السينمائيَّة المرئية بدءاً من تجربة الكاتب {جبرا إبراهيم جبرا» الذي أنشأ وحدة سينمائيَّة في شركة نفط العراق كانت تقوم بتصوير الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والتربويَّة وتصوير مشاريع الإعمار والبرلمان العراقي ومناسبات الدولة العراقيَّة والوزارات والأنهار والفيضانات والأهوار العراقيَّة وكل ما كان يجري في الحياة العراقية. وكان لهذه الوحدة السينمائيَّة دورٌ مهمٌ في توثيق تلك الحياة التي يتشوق المرء الآن لمشاهدتها، إذ تتمتع الصورة السينمائيَّة بمتعة استثنائيَّة حين يمرُّ عليها الزمن.
ومع تطور الأحداث في العراق وبشكل دراماتيكي أدت إلى تقلبات سياسيَّة ومنها حقبة دكتاتوريَّة زجتْ العراق في حروبٍ لا هوادة فيها. تلك الحقبة كان الدكتاتور العراقي ميالاً لتصوير كل الأحداث سواء في جبهات الحروب أو في بيوت الأشباح{وهو تعبير عالمي» عن السجون غير النظاميَّة». لم يكن الدكتاتور في رغبة وعشق للسينما بل للمتعة {الساديَّة» المرضية، في تحقيق مآربه وتحقيق الأذى على الواقع وعلى الآخر سواء كان هذا الآخر مواطناً أو دولة مجاورة أو حتى غير مجاورة.. وكان التصوير السينمائي شبه يومي. فكانت السينما تصور كل الوقائع والأحداث وترسل بالطائرات إلى استوديو{ميكرو ستاميا» في روما بإيطاليا وتعاد ليقوم الفنيون بتوليفها واستكمالها لتصبح قابلة للمشاهدة يخصص الدكتاتور جانباً من وقته لمشاهدة هذه الأفلام. وفي الاعتقاد بأنَّ هذه الوثائق تمثل مرحلة خطيرة من حياة العراق السياسيَّة!.
وبسبب حرب الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة ومن ثم حرب الخليج التي مهَّدتْ لإنهاء حقبة الدكتاتوريَّة عمدت المؤسسات الثقافيَّة والإعلاميَّة بادعاء خزنها بعيداً عن التفجيرات، لرمي هذه الأفلام في سراديب رطبة مثقوبة السقوف تنزل عليها الأمطار من دون توفر أدنى الشروط النظاميَّة لحفظ الوثيقة.. فكانت الأفلام تتعرض لدرجة حرارة تصل إلى خمسين درجة مئويَّة صيفاً وفي الشتاء تتعرض للأمطار التي تحول الأتربة إلى أطيان. وكان الموظفون الذين يعملون في الأرشيف يقضون أوقات عملهم داخل تلك السراديب، بينما تمنع مؤسسات الأرشيف العالميَّة من التواجد داخل مقرات حفظ الأرشيف السينمائيَّة لما تبثه الأفلام، خاصة المخزونة منها، من مواد سامَّة من مادة السليلويد ونترات الفضة، لا سيما أنَّ تلك الأفلام قد حفظت في علبٍ من الصفيح الذي تعرض للصدأ واهترأ مع الوقت. وقد أصيب بعض الموظفين العاملين بأمراض في الرئتين.
 
تاريخ العراق المصور
{غدا باتجاه الأمس» هو الفيلم الوثائقي الذي يخرجه السينمائي العراقي قاسم حول عن هذا الأرشيف الخطير بعد أنْ قدم مبادرة لإنقاذه ونجح في نقله من السراديب الرطبة إلى متحف يليق بكل حقيقة موضوعيَّة تحتويها تلك الأفلام. هذا المتحف حوى تاريخ العراق المصور تمهيداً لترميمه كاملاً ونقله على فورمات رقميَّة. اتصلنا بالسينمائي العراقي قاسم حول في هولندا، وهو يضع اللمسات الأخيرة على الفيلم الوثائقي {غدا باتجاه الأمس» فأوضح لنا بأنَّ الفيلم هو {صيحة انتباه تاريخيَّة» عن تجربة إنقاذ تاريخ العراق الذي يمثل هوية العراق الثقافية والإنسانيَّة.
وأضاف{أسعى من خلاله لكي أضع هذه الحقاق أمام الشعب العراقي برمته وأمام الدولة برمتها، كي يتحملوا مسؤولية إنقاذ تاريخ العراق المصور سينمائياً. 
وأنا بصدد تقديمه للمنظات الدولية لكي أضعها في دائرة المسؤولية. ولكن قبل أنْ أقدمه للمنظمات الثقافية الدولية ولمنظمة الأمم المتحدة أرغب في أنْ أعرضه أمام البرلمان العراقي في دورته الجديدة بعد الانتخابات، حتى يتعرف ممثلو الشعب على حقيقة، لا شك هي غائبة عن مخيلتهم. 
حقيقة يظنها الكثيرون أنها مجرد صور تاريخيَّة. كلا، فإنها حقائق موضوعيَّة حيث كل ثانية منها تحتوي على أربع وعشرين صورة متحركة بمعنى أنَّ كل ثانية تحتوي على أربع وعشرين حقيقة موضوعيَّة من تاريخ العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن، بل وحتى قبل تأسيس الدولة العراقية المعاصرة».
 
المسؤولية الشعبيَّة والرسميَّة
عندما سقط نظام الدكتاتور بادرت مجموعة من المهتمين بالوثيقة العراقية إلى تأسيس مؤسسة للذاكرة العراقيَّة. وكانت تلك الذاكرة تتمثل بالوثائق المكتوبة. وثائق مؤسسات السلطة السابقة ومؤسسات أمن النظام والخارجية والاستخبارات والمخابرات ووثائق المعتقلات والسجون وبيوت الأشباح. وقد تمكنت مؤسسات كثيرة وأحزاب سياسيَّة من الاستحواذ على الكثير من تلك الوثائق، كما نقلت كميات من الوثائق إلى بلدانٍ كثيرة في العالم. ولكن كل تلك الوثائق وعلى أهميتها تشكل حقبة تاريخيَّة موثقة ومكتوبة. تجربة الذاكرة المرئية هي شأن مختلف حيث يتمكن الناس من الأجيال الحاضرة والأجيال الآتية من مشاهدة تاريخ وطنهم وتاريخ شعب العراق بالصورة والصوت، من خلال أطنان من الأفلام السينمائيَّة وملايين من الساعات السينمائيَّة. 
هذه الأفلام تحتاج إلى رعاية واهتمام. والحقيقة أنَّ صاحب المبادرة التي أدت إلى إنقاذ تاريخ العراق المصور سينمائياً تحتاج إلى رعاية وفق شروطٍ نظامية علميَّة وشفافة.
كتب السينمائي قاسم حول شروطها بل ووثقها في فيلم سينمائي تسجيلي يحمل عنوان {غداً باتجاه الأمس».