عفاف مطر
في الليل وفي أوقات متأخرة وأماكن لا يتوقعها أحد، يرسم الفنان الكرافيتي بانكسي لوحاته على الجدران، لوحات تحمل رسائل في السياسة والرأسمالية وعن الحروب وممارسات رجال الشرطة وغيرها. بانكسي منذ سنوات لم يعد رجلاً واحداً، إذ إن هناك بانكسي بيروت وبانكسي مصر وبانكسي مصر وبانكسي ايران وغيرهم كثير، لكن بانكسي الحقيقي ما زال مجهولاً غامضاً. بدأ بانكسي بالرسم اليدوي، ثم تحول الى الاستنسال، بدايته كانت في بريطانيا لهذا يعتقد الكثيرون أنه بريطاني الجنسية، انتشار أعماله غيّر وجهة نظر العامة حول فن الرسم على الجدران، الذي بلغ ذروته في أميركا في سبعينيات القرن العشرين، إذ نجح بانسكي في لفت النظر الى هذا الفن عبر اعطائه معنى وهدفا ورسالة بأفكار أصيلة وجريئة وواضحة وذات قيمة فنية عالية. الحقيقة أرى أن نجاح بانكسي يرجع الى أنه دمج بين فن الكاركتير والمدرسة الواقعية أحياناً والسيريالية أحياناً أخرى. أغلب الفنانين التشكيليين المشهورين منهم والمغمورين، تعبر لوحاتهم عن همومهم الشخصية أو وجهة نظرهم الشخصية تجاه قضايا معينة، لكن بانكسي يعبر دوماً عن نظرة العامة تجاه ما يدور في العالم، هو أقرب الى صوت الجماهير لهذا نجح بانكسي في ما عجز عنه فنانو الكرافيك الذين سبقوه وعاصروه والذين ظهروا بعده. نجاح بانكسي في اخفاء هويته الحقيقة حتى الآن بلا شك زاد من شهرته، ليس لأن الناس عموماً تعشق الغموض فحسب، بل لأنه حصل على عدة جوائز مالية كبيرة، لكنه لم يحضر لاستلام تلك الجوائز، حتى لا يكتشف أحد هويته، مما رفع من مقدرات مصداقيته لدى الجمهور، وذهب البعض أنه سبب عدم ذهابه الى استلام تلك الجوائز أنه في الأساس ملياردير بريطاني ولا يحتاج الى المال كبقية الرسامين، لاسيّما رسامي الجدران أبناء الأحياء الفقيرة. على الرغم من انتشار رسامي الجدران ونجاحهم الذي زاد بعد ظهور بانكسي، إلا أن القانون الأميركي والأوروبي ما زال حتى الآن يعد الرسم على الجدران في الشوارع أعمالاً تخريبية يعاقب صاحبها بالغرامة، وأحيانا تصل العقوبة الى السجن، وربما لهذا السبب قرر بانكسي البقاء في الظل وعدم الكشف عن هويته الحقيقة. انتج بانكسي فيلماً وثائقياً عام 2010 بعنوان (الخروج من متجر الهدايا) تناول فيه أهمية خروج الفن من الصالات والمعارض ليكون متاحاً للعامة، وأطلق على فن الصالات والمعارض بالفن التجاري، وعرض فيلمه في مهرجان Sundance Film السينمائي وترشح لجائزة أكاديمي. لم يبق بانكسي في بريطانيا فقط، بل رحل بفنه الى أميركا وكندا واستراليا والمكسيك؛ كما أصدر كتاباً يحمل أعماله بعنوان (أضرب رأسك بالجدار) بيعت منه 22 مليون نسخة. حتى يكون عمله أسرع وقبل أن يراه أحد فتكتشف هويته ويتم القبض عليه، غير من طريقة عمله، وصار يلصق لوحة مرسومة مسبقا على جدار ويضيف عليها بعد لصقها بعض الخطوط والأشكال، فما كان من البعض إلا أن سرق هذه اللوحات الملصقة وبيعها في مزادات علنية بملايين الجنيهات، فما كان منه إلا أن يصرح عبر موقعه الالكتروني، حين بيعت إحدى تلك اللوحات المسروقة بمبلغ ضخم، قائلاً: “لا أصدق أنكم أيها الحمقى قد اشتريتم هذه القذارة” فاز بانكسي 2007 بأعظم فنان يعيش في بريطانيا، وكما توقع الجميع لم يحضر ليستلم جائزته. بانكسي معروفٌ أيضاً في العالم العربي، لا سيّما بعد أن عبر عن تأييده للقضية الفلسطينة برسومات موجودة الآن على جدار العزل العنصري الذي شيدته اسرائيل، كذلك رسومات موجودة على بيوت أهالي غزة بعد الأزمة الانسانية، التي عاشتها غزة وذلك عام 2014. بانكسي أيضاً دعم قضية اللاجئين السوريين في لوحة تعد الآن من أشهر لوحاته؛ في اللوحة فتاة تحمل بالونا أحمر، رسمها أمام السفارة الفرنسية في لندن، وذلك بعد معاملة الفرنسيين السيئة للاجئين السوريين في مخيم كاليه. بانكسي الذي يرى أن الفن المعروض في الصالات ليس سوى تجارة، يرى أن الكتّاب الذين يسعون وراء حقوق النشر والملكية، ليسوا سوى كتّاباً فاشلين، ربما ولهذا السبب مزقت لوحته نفسها ذاتياً بعد أن بيعت بمليون دولار في إحدى المزادات، وهو أمر متوقع لكل من يعرف بانكسي، لكن المفاجأة أن المشتري أصر على دفع المليون دولار واستلام اللوحة التي جمعها مرة أخرى ويقول إنها ازدادت جمالاً وأصبحت تحفة فنيّة.
لا أحد يعلم متى ستظهر لوحة بانكسي القادمة؟ وبيني وبينكم أتمنى أن يبقى بانكسي سراً لا يعلمه أحد؛ ولا أرى في بانكسي سوى ثورة فنية حقيقة صادقة ومعبرة، فمن غير بانكسي يتجرأ أن يرسم الموناليزا وهي تحمل الأر بي جي؟ إنه فن الشوارع يا سادة.