ذوالفقار يوسف
تسميتان تنتافسان (الشعر الشعبي) و (الشعر العامي) ويدور حولهما جدل هنا وهناك، ولاجل التعرف على وجهات نظر عدد من مثقفينا ارتأت (ثقافة شعبية) هذا الاستطلاع لكي نكون ازاء معرفة بما يخاض من نقاش معرفي، بعيدا عن الآراء التي يغلبها الانفعال فلنحتكم موضوعية الحوار مع استعدادنا لنشر ما يرد من انطباعات، علما إن أعدادنا المقبلة ستنشر آراء عدد آخر من مثقفينا.
قال علي لفتة سعيد:
لكل ابداع مخيّلة، وكل مخيّلة محاولة لصناعة حياة مجاورة، تعتمد على عمليتي البثّ والتلقّي ومحاولة الإمساك بتلك المنطقة المدهشة في عملية القبول لما هو إبداعي متخيّل. ولا يبتعد الشعر الشعبي أو أية تسمية أخرى عن حقول الإبداع، فهو يعتمد على ما تعتمد عليه أية عملية تنظيم للشعر العربي من مخيّلة وجذور وبحور وتطوّر وتجريد وتجريب وحتى شعر نثر حديث، وهو شعر يخضع الى ميزات الاستماع والإلقاء، ورغم المآخذ على الشعراء وليس على الشعر وهو الامر ينطبق ليس على الشعر الشعبي وحده، بل على كلّ مفاصل الإبداع، حيث لا يوجد أيّ فنّ بدون دخلاء يشوّهون أواصره وآصرته وارتباطه بالذائقة وصناعة الحياة، ولهذا فان الشعر الشعبي يتميّز بكونه الأقرب الى الشريحة الواسعة من المجتمع، الشريحة التي تحتاج الى عملية التقرب من تلقيها الخاص الذي تفهمه بسرعة المفردة التي تنطلق شعرًا وتصل بمفهومها ومدلولها ومركباتها الدلالية الى العقل الجمعي، وهو ما جعل التسمية تقترب من مدلولها الاجتماعي في الاطلاق (الشعر الشعبي) باعتباره يأخذ من المفردات اليومية أو ما يمكن ان نسميه بـ(الحسجة) التي لا تحتاج الى قاموس او معجم لغوي لتقريبها الى الفهم العام المجتمعي.
إن الشعر الشعبي يعد فنًّا من فنون الإبداع وهو لا يختلف في انطلاقاته الصوتية عن أي فن أخر، فهو يحتاج الى شعراء كبار مثلما يحتاج الى آخرين يسبحون في الزبد، وما يشوبه يشوب الفنون الاخرى، لكن الشعر الشعبي يكون أكثر تأثيرا في تخريب الذائقة إذا ما زاد الزبد وقلّ الإبداع، لأنه الأقرب الى الحالة الجمعية الاجتماعية، فالمفردة لديه هي مفردة اجتماعية ولهذا فهو يتحمل الكثير من وزن الهبوط في الذائقة المجتمعية اذا ما هبطت المفردة الى مستويات أدنى من التقبّل الإبداعي أو العقائدي أو الأعرافي، لذا فان ما ينطبق على تسميته الشعبي ربما تأخذ جانبين في ما أراده من اجترح هذه التسمية. الأولى انه شعر الناس جميعا وليس شعر فئة معينة كما هو الشعر العربي، والثانية إن أية تسمى أخرى قد لا تفي الأحقية بالاستحقاق، وكثيرا ما حاول الباحثون ونقاد هذا الشعر اطلاق التسميات لكن المخيلة والذاكرة واللسان احتفظت بالشعبي كتوصيف رغم إن الصراع لم يزل قائما.
أما حسن جوان فيقول:
يشيع استخدام وصف الشعر الشعبي في العراق تحديداً، تعبيراً عما هو نظم شعري باللغة المحكية. والمحكية هنا ليست نظاماً لفظياً عامياً فحسب، بل هو قضايا لها مساس مباشر بالتناول العاطفي للفرد المنهمك في واقعه وعرقه في مقابل النخبوي الذي لا يكتب سوى عبر تحليق فلسفي او عاطفي خاص، لم يعد متاحاً لعموم الناس فهما وتداولا. ومن هنا انبثقت ثنائية امعنت في عزلة الصالون عن الرصيف، والمثقف عن الشاعر. في دول عديدة اليوم وبعد نضالات لغوية وتعليمية جادة على مدى عقود، انردمت الهوة بين اللغة المحكية واللغة الفصحى ليتوحد عبر التعليم لا اللغة المكتوبة بالمحكية فحسب، بل توحدت العاطفة الشعرية ولم يعد هنالك ما هو شعبي وآخر فصحى وما يفصل بينهما من جغرافيا ومزاج وجمهور عريض او صالوني. ومن ناحية أخرى وجدت لدى بعض الشعوب كلمة شعر شعبي تنطبق على من يكتب بالفصحى ايضاً ولكن ليس باعتبار مرجعياته اللغوية وانما احتفاءً بطبيعة المواضيع التي يتناولها والتي لها مساس مباشر بهموم الشعب بعمومه. فهو اذاً شاعر الشعب وليس شاعراً شعبياً كتصنيف لغوي، وعلى هذا المقياس الأخير يمكن ان نضيف عشرات الأسماء العربية البارزة التي كتبت بالفصحى مثل النواب ودرويش الى هذه القائمة، لكن هوّة ما يدعى شعبيا واخر فصيحاً لا تقتصر على هذه الفروقات او الملتقيات، وانما تمتد الى افاق اكثر تعقيداً من حيث التطور والمناهل والتجارب المجاورة. عراقياً لا نجد تبلوراً وتصاعداً واضحاً في مدرسة الشعر الشعبي العراقية المتفردة بصفاتها المعروفة بالبلاغة الصورية والعاطفية الشجية والتي يمكن المراهنة على قوة تأثيرها العميق لا عراقيا فقط، وانما عربيا أيضا والشواهد تكاد لا تحصى منذ بواكير الكتابة والى يومنا هذا، الا ان هذه التاثير العاطفي البليغ ما زال يعتمد على ذات الاليات التقليدية للقصيدة العربية في ايقاعاتها ومفاخرها ولم يتجاوز زمنه نحو تجارب نفسية وفكرية مغايرة ومعاصرة، كما فعلت تجربة الرحابنة على سبيل المثال في انموذجها الهادئ لكن عميق التاثير، هذا يفتح التأمل نحو فكرة الشعر واللغة والمعاصرة وكذلك الحياة كما نشعر بها الان لا كما تحمل الكلمات من ذاكرة.