النجارة مهنة إبداعيَّة تواجه الزوال وتنزوي خلف حكايات الزمن الجميل

ريبورتاج 2021/07/06
...

  نافع الناجي
تمثل مطارقها ومساميرها وبقية أدواتها وشخوصها وتاريخها، ذاكرة خالدة تتحدى لغة النسيان عبر نبعٍ خالص يفيض بأصالة الموروث الشعبي وحكايات الزمن الجميل، حرفة اصطدمت بتقنيات العصر كحال غيرها من العناوين والمهن والحرف الشعبية الأخرى، والتي بمجرد أن اتسعت مساحات التطور التكنولوجي وعزوف زبائنها، حتى رفعت راية الانزواء والركون جانباً بكل خجلٍ واستحياء.
هذه «الصنعة» كانت تزدهر بالحياة، والتي ولدت من رحم الإصرار وعبر حضارة أزلية حاكت أجمل وأبهى الفنون التراثية وبأنامل مبدعيها بعد أن جبلوا عليها، جيلاً بعد آخر وأفلحوا بعد كل هذه السنين بالالتحاق بركب وذاكرة تراث وادي الرافدين بكل امتياز، ولكن بعد فتح الابواب على مصاريعها أمام كل السلع المستوردة على رداءتها أضحت (النجارة) تواجه خطراً حقيقياً قد يطوّح بها خارج حلبة المنافسة، فالأثاث الماليزي والصيني والتركي وحتى الايطالي صار يجتذب جيب الزبون العراقي ويدغدغ ذائقته، لسهولته وجاهزيته ورخص ثمنه وألوانه الزاهية البرّاقة، بالرغم من أن متانته لا تقارن ابداً بـ «التسكام»
العراقي!. 
 
تراث متجسد
البضاعة العراقية التي نحن بصددها عبر هذا (التحقيق) تمثل تنويعات مختلفة مصحوبة بإبداعات حرفييها، في صورة مشرقة لحرفة تأبى الابتعاد عن مخيلة الناس، ووفقاً لدلالات فنية وتراثية أكدت الترابط المتين بجذور مدن العراق والتي أرّخت ولسنين عديدة مفاهيم الإبداع والموروث الشعبي، هذا ما ابتدأ به الحاج برهان (صاحب ورشة للنجارة)، مضيفا: بأن جوانح المحال الشعبية في مختلف المناطق العراقية وتحديدا البغدادية منها قد شكلت حتى وقت قريب أجمل المعالم التراثية ومازالت تنبض بألق التواصل، اذ يفوح من جنباتها عبق الموروث الشعبي والتراثي والإنساني، إذ تنوعت محالها ومتاجرها بتنوع صناعاتها من المستلزمات المنزلية والزراعية والشعبية، ويؤكد برهان: صحيح أن المستورد شكل مخاطر صادمة لنا، لكننا نتفوق عليه بالروحية والاستغراق بالأصالة، التي مهما حاول الصينيون وغيرهم تقليدها لن ينجحوا على الاطلاق، لأن لكل بلد ثقافته وإصالته وموروثه وفولكلوره الشعبي.
 
إغراق سلعي وعشوائية
اما علي حسين (46 عاماً) صاحب محل للنجارة لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار، ولكنه يخفي في دواخله من النكهة التراثية ما تعجز عن وصفه الأقلام، فيشير الى أن التطور الحاصل في الواقع الحياتي والمجتمعي انعكس سلباً (حسب رأيه) على مهنة الآباء والأجداد، وانحسرت معالمها شيئا فشيئا، اذ يؤكد بأنه وحتى وقت قريب كانت معظم صناعاته من الأدوات المنزلية والزراعية تلقى رواجا كبيرا من قبل زبائنه لخصوصيتها الكبيرة في نفوسهم، ولسد متطلباتهم الحياتية، لكن الوضع اختلف الآن بشكل كبير ومخيف لأسباب معروفة تفاصيلها، اذ تنشط حركات الاستيراد العشوائية وبلا أدنى ضوابط او معايير للجودة، ما أدى الى إغراق الاسواق بسلع رديئة ومنها غرف نوم وأثاث مكتبي ومعدات مختلفة، الأمر الذي أثر بشكل سلبي في عملنا بشكلٍ عام ومهن أخرى ذات صلة.
 
الماركة المسجلة وماكدونالدز!
بينما استذكر سلمان محيميد (63 عاما) تاريخ السوق التي يقطنها والتي تعرف بسوق النجارين، اذ يعود الى عقود خلت قائلا: تعد سوق النجارين من العناوين الشعبية ومن أقدم الأسواق من حيث تأريخها وأصالتها والمفاهيم التي تحتويها، اذ توارث أصحاب المحال هذه المهنة من آبائهم وأجدادهم، والذين انحصر عملهم في صناعة الموبيليات والأثاث المنزلي والأدوات الزراعية أو حتى ما يخص أدوات الأطفال حديثي الولادة وغيرها من المستلزمات الضرورية للأسرة العراقية، مضيفاً بأن ما يتم عرضه من منتجات محلية أمام واجهات محالهم لم تعد قادرة على منافسة البضائع الأجنبية والتي تتميز بزهد أسعارها، قياسا لما يتم صنعه من قبلنا وبغض النظر عن مناشئها، والتي بالتأكيد لا ترقى الى مستوى ما تتم صناعته من قبل رواد هذه المهنة والذين باتوا ماركة مسجلة تأبى الانزواء، لكن ماذا نفعل لعصر السرعة والبحث عن الجاهز مثل مطاعم (ماكدونالدز)!.
 
خصوصية مميزة
من جانبه أوضح عماد فيض الله (38 عاماً) وجهة نظره بعالم هذه المهنة وما تحمله من جماليات تراثية وشعبية يغطي صداها أركان البلاد، والتي غدت ملاذه بعد أن عجز من طرق باب الوزارات والدوائر الحكومية لغرض التعيين، بالقول: كثيرة هي المهن التي نراها هنا وهناك وخاصة التراثية والشعبية منها، ولكن لمهنة النجارة خصوصية مميزة تفردها عن باقي المهن والحرف الأخرى الموجودة لأهميتها في حياة الاسر العراقية، ويمضي بالقول، بأن الأسواق المختصة بهذه الحرفة كانت المصدر الرئيس لأغلب الصناعات الخشبية على الرغم من الطرق القديمة التي نعمل بها ونعتمد خلالها على أدوات بسيطة جدا، أكل الدهر عليها وشرب، لكنها كانت مصدراً مهماً للعراقيين في حياتهم اليومية والمعيشية. 
 
احتضار
غزو المنتجات الأجنبية بكل أنواعها وأشكالها واستخداماتها، واختلاف حركة السوق وفق مبدأ العرض والطلب، وزحف الدخلاء على الأسواق الشعبية والتراثية من المهن الأخرى، واتجاه الحرفيين الى فضاءات مهنية أخرى جديدة، عوامل بمجملها أدت الى احتضار هذه المهنة بشكل كبير، هذه رؤية النجار حسن دواي حمود( 45 عاماً) وهو يكمل حديثه بالقول : بأن زبائنه قد تغيرت ميولهم في هذا الجانب وبدؤوا يتجهون الى شراء المنتجات الأجنبية، اذ يرى من جانبه انتفاء حاجتهم لصناعته، إلا أن عمله في هذا الجانب هو من أجل الحفاظ على تاريخ هذه المهنة على الرغم من أنها باتت لا تفي بمتطلبات العيش، بل ان كلفتها ونفقاتها صارت باهظة جداً ولا تجدي نفعاً، لكنه مضطر لعدم مغادرتها بسبب تعلقه الروحي بهذه المهنة، حسب وصفه.
 
متعة التواصل
الفتى كرار قاسم (17 عاما) وبالرغم من حداثة سنه في العمل، إلا ان حبه الجم لواقع هذه المهنة وتشجيع والده (رحمه الله) قد أثقلاه من المسؤولية الأسرية التي وقعت على عاتقه الى جانب شقيقه، بعد أن استشهد والدهما في الحرب ضد داعش، ويقول كرار : ليس بوسعي أن أعمل ضمن نطاق حرفة أخرى غير مهنة النجارة، لأني حقيقة قد وجدت متعتي مع هذه المهنة لما لها من فنون وأسرار وخفايا إبداعية، ولا أريد لها الانقراض والزوال، مؤكدا أن ما يشاهده في هذه السوق وما بقي من حرفيين لا يتجاوز عددهم  أصابع اليد، كان خير دافعٍ له وهو بهذا العمر، اذ يعمل بهذه الروحية لأجل الحفاظ على بقايا تراث المدينة
الجميل. 
 
الانشداد إلى القديم
المواطن سليمان نوري (57 عاماً) يقول: لقد اتخذ الإنسان النجارة كمهنة لكسب رزقه ورزق اسرته، والتي هي من المهن القديمة التي عرفها الإنسان وذلك باعتماده على آلات ومعدات بدائية قديمة، وبالرغم من ذلك يعتز بعمله وإنتاجه كاعتزازه بأولاده، مشيرا بأن النجار كما يقوم برعاية أبنائه منذ الطفولة حتى يصبحوا رجالا، كذلك فانه يبدأ بالعمل ويتعامل مع خشب أصمّ، فينشره حسب أهوائه ومتطلباته إلى أن يصل الى مراحله النهائية. 
واضاف: إن النجارة حالها كحال المهن الأخرى قد أصابتها حمى التطور والتقليد ودخلت المكننة في معظم مراحلها إن لم نقل كلها، ولكن يبقى الانشداد للموروث هو المحصلة النهائية لاستمرار هذه المهنة في واقع حياتنا، بالرغم من إقرارنا بالخطر الكبير المحدق بها من كل صوب. 
 
النجارة عصب حياتي
النجار الشاب تحسين عبد الرضا (29 عاما) يقول: ما زال عملنا بخير، وزبائننا كثيرون، بالرغم من أن أسعارنا غالية نوعا ما قياسا الى المعروض من المناشئ الأجنبية، لأن ما نقوم بصناعته من الأثاث المنزلي يتميز بعدة جوانب أهمها المتانة والقوة، وأنا سعيد بعملي للغاية وما أتقاضاه من أجرٍ شهري يكفي لمساعدة أهلي في مصاريف المنزل. وحول انواع الاعمال التي ينفذونها قال: انها تشتمل على أبواب المنازل من الخشب الصاج وكاونترات المطبخ الخشبية المطعّمة، فضلاً عن غرف النوم وخزانات الملابس والمكتبات وغيرها.
 
معوقات ومصاعب
مهنة النجارة تعلمت أصولها من الذين سبقوني في هذا المجال ولن استطيع أن أبرحها ولو للحظة لأنني تعلقت بها وصارت جزءا مهما من حياتي ومصدرا لرزقي، هذا ما قاله الشاب بلاسم صلاح (نجار- 22 عاماً)، مضيفا بأن ما يواجهونه من معوقات ومصاعب في مجمل عملهم يتأتى من ارتفاع أسعار الخشب والمواد الأولية المصاحبة لعملهم، فضلاً عن قيام البلدية برفع اسعار بدلات ايجار محالهم اضعافاً مضاعفة، وبخصوص ما يتم استيراده من أثاث جاهز، فانه يرى بأنه عديم الفائدة والمتانة، ولا يمكن له أن يضاهي الصناعة المحلية وخير دليل على ذلك ان معظم الزبائن الذين مازالوا يتواصلون معهم يفضلون صناعتهم الوطنية، ناهيك عن كون الاثاث المستورد لا يمكن تفكيكه ونقله لمكان آخر لأكثر من مرة، اذ يتلف بعكس الصناعة العراقية الوطنية التي تدوم وتعمّر لسنوات طويلة.
 
رغبة إبداعيَّة
أما حسن أكبر (عامل نجارة- 27 عاماً)، فهو أحد العاملين في ورشة نجارة منذ ما يقرب الخمسة أعوام، إذ لا يجد ضالته إلا في هذه المهنة التي يرى في تفاصيلها الدقة والإبداع، وصناعتها (كما يقول) كلما طال عمرها كلما ازدادت متانتها ومقاومتها للاستعمال، اذ يزاول عمله منذ الصباح وحتى المساء وهو يشعر براحة تامة الى جانب أصدقائه في الورشة نفسها، مؤكدا أن صاحب الورشة (الأسطة) يواكب تطلعاتهم الفنية والصناعية والتي تمثل رغباتهم الإبداعية عبر ابتكار اشكال وتصاميم جديدة كل يوم تقريباً تحاكي الموضة. 
 
المستورد والمستهلك
واختتم تحقيقنا المواطن مهدي علي باقر (صاحب معرض لبيع الأثاث المنزلي المستورد) وذلك بالقول، إن الأثاث الصيني والماليزي وكذلك الإيطالي والتركي قد أنعش السوق العراقية وجعل منها سوقا مفتوحة لاستيراد مختلف الأنواع والمناشئ، لأن ما يتم إنتاجه من الصناعة المحلية أسعاره مرتفعة ما جعل المواطن يلجأ الى شراء ما يتم استيراده، والذي يتميز بزهد أسعاره قياسا الى المحلي، مردفا بالقول إن هذه الميزة قد دفعت بالمواطن الى تفضيل المستورد عند الشراء على حساب البضاعة المحلية، ولدى سؤالنا عن المتانة اعترف باقر، ان الأثاث العراقي لا يعلى
عليه.