المقاهي الثقافية.. الأمكنة التي تشبه المدن

منصة 2021/07/06
...

 عمار عبد الخالق
 
لقرون عُدّت بغداد أهم بيئة للمقاهي والملتقيات والمنتديات الثقافية، وكانت تضاهي المدن العالمية؛ إذ صارت محطة للنقاش الأدبي والفني وتبادل أطراف الحديث بلغة عالية معرفياً وفكرياً. 
بغداد - المدينة الحلم - في الحاضر زاخرة بحفلات توقيع الكتب والجلسات الأدبيَّة، وكأنها امتدادٌ لا بُدَّ منه للفعاليات التي قدّمتها المقاهي آنذاك توّجه حضور نخب وشخصيات أصبحوا علامة فارفة في المجتمع أمثال معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري وجميل صدقي الزهاوي وبلند الحيدري، وأكرم الوتري وعبد الوهاب البياتي وعبد المجيد الونداوي، وعبد الرحمن طهمازي والكثير من الرواد الآخرين.
قبل عقود، كان لبغداد حضورٌ فاعلٌ، إذ تعبّر عن حيويَّة المشهد الثقافي، عبر صحفها ومجلاتها ومكتباتها، وعبر مقاهيها، مثل {مقهى أم كلثوم} ومقهى { الشابندر} و}حسن عجمي} وملتقى { الأسطورة} و{البرازيلية} و{عارف آغا} و}المعقدين}.
وبعد انتشار الوسائل والتقنيات الحديثة أصبحت هذه الأماكن بشكلٍ أو بآخر مهجورة بسبب عدم الاهتمام، واختلاف أفكار رواد تلك المقاهي القديمة. هنا يبدأ التساؤل عن أهمية المقاهي الثقافية وتأثيرها في الأدب والفن لدى الأجيال السابقة مع نخبة من الأدباء والفنانين وهم رواد المقاهي في السابق.
 
المقاهي.. أهم سمات 
بروز الثقافة
يرى الفنان العراقي مازن محمد { تكمن أهيمة المقاهي الثقافية وانتشارها سواء كانت في مؤسسات ثقافية مثل معارض الكتاب والمقاهي الثقافية الأهلية والتي أصبحت منتشرة بشكلٍ كبيرٍ في بغداد والمحافظات، فمن سماتها نشر الثقافة والوعي الثقافي للطبقات البسيطة وتوعيتها ثقافياً، ليكونوا عناصر صالحة في المجتمع الذي تنتشر فيه الأمية بشكلٍ واضح لتهيئتهم وإعدادهم للتمييز بين الرأي الصائب والرأي السالب ليبثوا وعياً جماهيرياً يسهم في انتشال البعض من ممارسة الأفعال الخاطئة التي تفسد المجتمع}.
 
لا مدن دون مقاهٍ
الموسيقار سامي نسيم يتحدث عن المقاهي الثقافية التي شكلت حضورها البارز في بغداد وغيرها من العواصم العربية وحتى العالمية ومنها في باريس واسبانيا، إذ تحولت الى ملتقيات أدبية وفنية لأجيال من الأدباء والنقاد والمتابعين للثقافة، حتى نشطت في فترة الستينيات مقاهٍ للأدب مثل مقهى الزهاوي وحسن عجمي والمقهى البرازيليَّة، وكانت عبارة عن ملتقيات ثقافية رفيعة وكذلك مقاهٍ للمطربين الرواد أيضا يقدمون حفلاتهم بها وأخرى للجالغي البغدادي وأخرى سميت باسم ام كلثوم وتبث أغانيها طوال ساعات النهار، والمقاهي المعاصرة التي يتجمع بها المثقفون وتحتوي على مكتبة للمطالعة هي امتداد لتلك المقاهي التي أصبحت جزءاً من ذاكرة وتراث المجتمع العراقي.
وأضاف نسيم { لا مدن دون مقاهٍ، فدورها الثقافي مهم جداً لخلق حوارات ثقافية بين الأجيال، وتنشيط الوعي المجتمعي بدور الأدب والفن بحياة الناس واستمراريته.
 
كهوة وكتاب
وأشار ياسر عدنان صاحب مقهى كهوة وكتاب الى أنّ تاثير المقاهي في العالم كبيرٌ في الثقافة والأدب، فنجد أغلب المقاهي الثقافية تكون مكاناً للقاء الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين، لا سيما بعد 2003 وبسبب دخول الأركيله تراجعت تلك المقاهي، ولكننا حاولنا في كهوة وكتاب ورضا علوان وبعض المقاهي في المحافظات أنْ نعمل على إحيائها من جديد وقمنا بالعشرات من حفلات التوقيع وحفلات عزف وغناء وشعر وتابين لمثقفين راحلين واحتفاء بمنجزات ثقافية وشاركنا في معارض الكتب واسبوعيا نقوم بعمل جلسات ثقافية.
 
حاجة ضروريَّة في الحياة
أما الشاعر كاظم غيلان فأوضح أنَّ المقهى بمفهومه العام محطة استراحة ترفيهية، إذ يشكل واحدة من الحاجات الضرورية للإنسان، واضحت المقاهي علامة مهمة في تاريخ الحركة الثقافية بالعراق، لعلَّ الكثير من وقائعها حصلت في المقاهي، لناخذ على سبيل المثال لا الحصر مقهى (ياسين) الواقع في شارع ابي نواس عند سبعينيات القرن الماضي، إذ شهد ولادة البيان الشعري، الامر اختلف تماماً في راهن زماننا، حيث اصبحت مقاهي الإنترنت هي السائدة، وعلينا عدم التقليل من شانها، فهي ايضا توفر تبادلاً معرفياً بين الساعين للشان الثقافي والفني وتختصر الكثير من شأن ومفردات المقهى التقليدي الذي يشهد احتضاره اليوم كما نرى ذلك الآن (حسن عجمي) وهو يتوارى.
 
جزء من ذاكرة الثقافة
الشاعر محمد تركي النصار حدثنا عما تمثل المقاهي الادبية بوصفها جزءاً من وجدان وذاكرة الكتاب والمثقفين العراقيين. وعلى مدى عقود طويلة نشأ العديد منها، وبدوافع امتزج الادبي الثقافي فيها مع الهم السياسي، فكانت تلك المقاهي مكاناً للقاء والحوار والتفكير بمصائر شعوب.
هكذا ارتبط ظهور الشاعرين الرصافي والزهاوي وبعدهما الجواهري بالمقاهي وتأسس مقهى الزهاوي في منطقة الحيدرخانة ومقهى البرلمان ومقهى حسن عجمي والشابندر والبرازيلية في شارع الرشيد. وكل منها له خصوصيَّة من حيث الرواد ونكهة المكان.
وأضاف النصار { كنت من رواد مقهى البرلمان أواخر السبعينيات، ولاحقاً انتقلنا الى مقهى حسن عجمي، وهناك كنا نلتقي بأبرز الأدباء والمثقفين خصوصاً أيام الجمع، إذ نتحاور عن مشاريعنا وآخر الإصدارات. 
 
الحركة الثقافية والاجتماعية
وقال الكاتب والروائي العراقي شوقي كريم حسن: إنَّ تلك المقاهي، ومنذ بدايات القرن العشرين، تمثل الذاكرة الجمعية لحركة المجتمع السياسية والاجتماعية، ثم تحولت الى الحركة التجارية الناشئة تواً، ومع التأسيس الأول للدولة الفيصليَّة، برزت ظاهرة المقهى الخاص بالكتاب والأدباء وأهل الفن والطرب، وبهذا تكونت الجالغيات البغدادية وبدا تأثير المقام العراقي واضحاً، ولأنَّ السياسة اللاعبة الأمهر تحولت الصراعات داخل المقاهي الى مجادلات يوميَّة وانحيازات لهذا السياسي أو ذاك، ولهذا السياسي أو نظيره الآخر، تحمل الشعر الوزر الأكبر في مثل تلك المناكفات والتي قادها كبار الشعراء}.
وأشار شوقي كريم إلى الرصافي بمقهاه الخاص ورواده ومريديه، والزهاوي الفيلسوف الذي كان لا يغادر المقهى إلا بعد غروب الشمس محفوفاً بجماهيره، لم تتغير الحال في ستينيات القرن الماضي، بل اتسعت رقعة الوجود اللافت بين كازينو البلدية الوكر السياسي القومي وبعض من أهل اليسار، الى الأعياب في شارع الرشيد ثم البرلمان وحسن عجمي، الذي كان المؤثر الاكبر في أبناء جيل السبعينيات الهاربين من الموت، وقلق الفناء، وعند خط التواصل كان البرازيلية محط البرجوازية العراقية وأدباء وكتاب يحلمون بلحظات تجلٍ منفردة ومتفردة، ولكي تكتمل الظاهرة ظهرت مقاهٍ غريبة التشكيل والمسميات منها مقهى المعقدين في الباب الشرقي، وفي الاعظمية عند ساحة عنتر أسس جواد سليم ومجموعته مقهى الواق واق، وكان محطة معرفية مهمة، حوارات في الأدب والفن والنحت والموسيقى، واللافت أنَّ هذا المقهى كان مشترك الحضور حيث نرى سليم ونزيهة وغيرهم الى جانب جماعة الواق واق.. المقهى بهذا الفعل شكل تاريخاً جمعياً درسه الدكتور مالك المطلبي واستنطقه بوصفه مكاناً مؤثراً وفاعلاً.
وأضاف {كانت الصراعات واضحة، والحوارات ساخنة مدهشة، يمكن للآتي من خارج العاصمة من الأدباء والفنانين معرفة كل ما يريد معرفته بدقائق معدودات، آخر الإصدارات وآخر القصائد وآخر القصص، وآخر حكايات الحب والغرام الناشئة بين الأدباء وأحلامهم، فظل مقهى حسن عجمي نيرة عظيمة التأثير حتى بداية الألفية الجديدة، حيث غادره الأدباء الى الشابندر ومن ثم الى أمكنة أخرى أكثر رقياً، ولكنها وللأسف أقل حميمية، الفوضى واللغط، وعدم الاكثراث، وغياب المعنى الفكري للحضور، غدى المقهى مجرد شيء ربما للتباهي أو اللقاءات العشقيَّة، غابت الفعاليات المسهمة في ديمومة الحياة، وإنْ أقيمت فبخجل ومن دون جمهور كبير، صارت تدعو الى العزلة الروحية مع فريق منتخب، وضاعت أيضاً نكهات المقاهي الشعبية في المحلات والمدن}.