الطبخ المستدام والتوجه العالمي لأساليب التغذية الاقتصاديَّة والصحيَّة

ريبورتاج 2021/07/11
...

   بدور العامري
لم تتراجع او تتوانَ الشابة ميس ذات الـ (32 عاماً) عن تحقيق حلمها
 في افتتاح مشروعها الخاص بالطبخ المنزلي الصحي، حتى بعد
 انشغالها بالدراسة الجامعية اذ قالت {كنت اخصص وقتاً كبيرا
ً للبحث والقراءة في كل ما يتعلق بالطبخ وفنونه، فهو هوايتي 
التي طالما كنت شغوفة بها، حتى بعد التخرج وعدم وجود فرصة
 للتعيين والوظيفة في مؤسسات الدولة، وكل هذه الظروف 
دفعتني للمضي قدما في تنفيذ مشروعي على ارض الواقع، 
لاجد ضالتي بين مواقع الانترنت في الطبخ المستدام الذي يجمع
 بين الطعم اللذيذ الصحي والاقتصادي في الوقت نفسه، بعيدا 
عن الأطعمة الدسمة وأساليب الاسراف التي نجدها في الطبخ
 التقليدي، ومنذ ذلك الحين بدأت بتطبيق هذا النظام على افراد
 اسرتي ومن هم حولي، انتقالا الى زبائني الذين نالت استحسانهم
 الفكرة ونتائجها}.  
 
ويمكن تعريف الطبخ المستدام بانه استخدام الموارد الأساسية للحصول على الطعام، سواء الزراعية او صيد الأسماك او الطيور واللحوم، إضافة الى طريقة اعداد الطعام، بشكل لا تهدر فيه الموارد الطبيعية، وتستمر في المستقبل من دون احداث ضرر بالصحة والبيئة.
 
الحاجة والطلب المفتعل
يعد تحديد نمط الاستهلاك البشري للغذاء من اهم الخطوات لتلافي أي مشكلة اقتصادية من الممكن أن تحدث، الخبير في شؤون الزراعة والاقتصاد الدكتور مهدي ضمد القيسي تحدث لـ {الصباح} عن هذه الموضوعات بشيء من التفصيل قائلا {لا بد من وجود أساس لنمط الاستهلاك الغذائي للإنسان، والمحافظة على مصادر الغذاء من الهدر، مستمد من حكمة الهية تمثلت بالآية الكريمة {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين}، وكذلك قول الرسول محمد (ص) {نحن قوم لا نأكل حتى نجوع واذا اكلنا لا نشبع}، وهو تأكيد صريح على مبدأ الاعتدال وعدم الاسراف في الطبخ او الاكل لما له من اضرار اقتصادية وصحية}.
وتابع القيسي بخصوص المشكلات الاقتصادية التي تحدث نتيجة غياب النمط الاستهلاكي المعتدل، اذ يقول {انه في حال شراء أي مادة غذائية يجب أن يتم اخذ الاحتياج الفعلي منها، عن طريق استهلاكها وضمان عدم تلفها وضياع منافعها من جهة، وحرمان اشخاص آخرين من الاستفادة منها، وبخلاف ذلك تظهر مشكلة اقتصادية جديدة وهي (الطلب المفتعل) على هذه المحاصيل الغذائية وارتفاع أسعارها، وبالتالي إيجاد شحة في المعروض منها في الأسواق، وحرمان افراد آخرين هم بحاجة اليها بوصفها مواد غذائية أساسية، علما ان ارتفاع الأسعار ليس للطلب الحقيقي انما جاء نتيجة شراهة الأشخاص واقبالهم غير المبرر على شراء تلك المواد}.
 
ممارسات خاطئة
 وتقول ميس في ما يخص العادات والمفاهيم الخاطئة التي نمارسها بشكل يومي، بما يتعلق بكمية ونوع الأطعمة والمشروبات التي تقدم في المناسبات العامة والخاصة بانها بحاجة الى ثورة تصحيح لتشاركها الرأي الناشطة في مجال العمل التطوعي اقبال الغزي، التي تعمل في مؤسسة لمساعدة الايتام والفقراء في بغداد، اذ تقول: تطغى مظاهر الاسراف والبذخ على موائد الطعام في المناسبات العامة، الافراح والاحزان على حد سواء، بحجة الكرم والضيافة وهي في واقع الحال لا تتعدى غاية البهرجة والتباهي امام الاخرين، متكئين على الجهل وعدم الوعي بأهمية التقنين وتنظيم متطلبات الحياة اليومية حسب الحاجة وعدم التبذير والحفاظ على هذه النعمة من الزوال، وتقول المتطوعة اقبال {ان صفة التبذير والطبخ بكميات كبيرة تزيد عن الحاجة وتكاد تكون صفة موجودة لدى المجتمع العراقي ودول الخليج بصورة عامة}.
وتعتقد الغزي {انه كلما زادت ممارسة هذه المظاهر في مكان معين لمجتمع ما، تزداد معها نسب الحرمان والفقر والجوع في الجانب الاخر، وهي نتيجة طبيعية لعدم التوازن بين طبقات المجتمع}، داعية منظمات المجتمع المدني المختصة للتعاون مع رجال الدين والأشخاص المؤثرين في مجتمعاتهم للقيام بدور اكثر فاعلية للقضاء على مثل هكذا ممارسات تهدد الامن الاقتصادي والاجتماعي. 
 
الهدر والتبذير
الدكتور مهدي القيسي أشار الى نوع آخر من الممارسات الخاطئة المتبعة في حياتنا اليومية قائلا  {لو تفحصنا أنواع الغذاء لتوصلنا الى نتيجة أن معظم المواد الغذائية هي سريعة التلف تقريبا، من خضار وفواكه ولحوم ..الخ، ومعنى هذا في حال شراء هذه المواد وعدم استهلاكها طازجة ستتعرض بمرور الزمن للتلف او تقل قيمتها الغذائية، نتيجة قلة الرطوبة وفعل الاحياء المجهرية التي تؤدي الى تلفها ثم فسادها، وبالتالي سنفقد الجدوى الاقتصادية من هذه الأغذية، إضافة لذلك هناك تصرف خاطئ لدى الكثير من الاسر وربات البيوت، وهو التخزين غير المبرر للمواد الغذائية، اذ يمكن عده وجهاً آخر للهدر والتبذير، من حيث فقدان الطاقة اللازمة لحفظ تلك الكميات، وكذلك افتقار المواد المخزنة لاغلب العناصر الغذائية المهمة، وبالتالي تراجع الجدوى الاقتصادية من شرائها}.
 
وباء السمنة
لا تكمن خطورة ظاهرة الاسراف في الغذاء وتناول وجبات فوق الحاجة الفعلية للأشخاص في إيجاد تبعات اقتصادية متمثلة بحدوث شح في المواد الغذائية واحداث أزمات ذات جنبة اقتصادية فقط، انما يتعدى الموضوع هذه الحدود ليحدث مشكلات صحية ونفسية كبيرة للأشخاص في مختلف انحاء العالم، الدكتور صلاح مهدي الجادري المختص بالتغذية والصحة العامة، اشار الى حجم مخاطر الاسراف في الاكل والجهل تجاه الغذاء الصحي المتوازن قائلا {أصبحت البدانة (او على اقل تقدير زيادة الوزن وهي المرحلة التي تسبق السمنة) من اكبر المشكلات التي يعاني منها العالم وهي باتساع مستمر اشبه بالوباء، اذ يمكن عدها اشد ضراوة من الوباء الحالي (كورونا) لانها مرض صامت يحمل بين ثناياه كما هائلا من المضاعفات الصحية على مختلف الأجهزة الجسمانية والنفسية لدى الأشخاص، كون الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن هم اكثر عرضة للإصابة بالسكري وامراض القلب والشرايين، إضافة الى الاختلال الهرموني وتكيس المبايض عند النساء وبالتالي صعوبة الحمل وغيرها من الامراض التي تعد معالجة السمنة هي اهم خطوة في علاجها والوقاية منها}. 
 
الاستنزاف النفسي
وتابع الدكتور صلاح الجادري تفسيره لمشكلات السمنة قائلا {للجانب النفسي نصيب كبير من تأثير السمنة وانعكاسها على سلوك الاشخاص، اذ لنا أن نتصور كيف يكون شعور ذلك الشاب الذي يرى من حوله اقرانه وهم يرتدون من الملابس ما يبرز رشاقتهم ويتعمدون التفاخر بها امام الاخرين، بينما هو يجد صعوبة في المشي والقيام والجلوس بسبب زيادة الوزن المفرطة، وكذلك تلك الفتاة التي أصبحت وأهلها يخشون نفور العرسان منها، او الزوجة التي بدأت زيادة الوزن تؤرقها خاصة بعد الحمل والولادة، اذ تبدأ بالخشية من فقدان شغف زوجها فتتحول الى امرأة تعيش في حالة من التوتر والاستنزاف النفسي}،  موضحا ان {خيارات علاج السمنة أصبحت مصدرا للقلق والاضطراب بحد ذاتها، اذ نجد المريض في حيرة من امره بين نصائح اشخاص ليسوا ذوي اختصاص، وجدوا في خيارات الجراحة ميدانا خصبا لكسب المال من جهة او التوجه الى الحلول السريعة وغير المكلفة والتي غالبا ما تكون غير ناجحة مثل استخدام العقاقير والأدوية المنحفة التي تعج بها مواقع الانترنت هذه الأيام، والتي تحمل من المخاطر ما يفوق خطورة المرض نفسه، اذ غالبا ما تكون مواقع وهمية او غير مرخصة من الجهات الصحية ذات العلاقة}. 
 
أساليب الطهي الصحي
تسهم طريقة طهي الطعام ونوع الادوات المستخدمة في الطبخ بنسبة كبيرة في تحديد ما اذا كان ذا فائدة ممتازة او جيدة او عديم الفائدة وصولا الى مرحلة غذاء مضر بالصحة، اذ تقول الشابة ميس {من الأساليب الصحيحة لطبخ الطعام هي التسوية بالبخار او السلق وطريقة الشي، بدلا من القلي، والاستعاضة عن الزبد والدهون والسمن بالزيت النباتي غير المشبع مثل زيت الزيتون والبكروزيت الصويا وعباد الشمس، والتقليل من استهلاك الأطعمة المخبوزة والمقلية مثل (المعجنات والكعك والبسكويت والرقائق)، وكذلك الحد من استخدام الملح والتوابل ذات الضرر خاصة على المرضى وكبار السن، وتناول الفواكه والخضراوات الطازجة، ثم الابتعاد عن استهلاك السكر بكميات تزيد عن حاجة الجسم، وهذه الأمور التي طالما اتبعها في مطبخي وانصح بها زبائني خاصة من يبحثون عن الرشاقة والجسم الصحي، إضافة الى استخدام أدوات صديقة للبيئة اثناء الطبخ مثل أكياس الورق بدلا من أكياس النايلون، واواني التيفال والسيراميك بدلا من اواني الالمنيوم.
 
توعية مجتمعيَّة
منظمة الأمم المتحدة اولت موضوع الطبخ المستدام والأنظمة الغذائية الحديثة اهتماما كبيرا، تمثل بالتأكيد المستمر على تبني هذه الأساليب وتشجيعها وتخصيص يوم عالمي للاحتفاء بفن الطبخ المستدام، الدكتور مهدي القيسي شدد على أن موضوع التثقيف على اتباع أنظمة غذائية معتدلة وصحية بعيدا عن الاسراف والتبذير والهدر بحاجة الى توعية مجتمعية تتضافر فيها جميع الجهود لتحقيق أهدافها ويضطلع فيها كل فرد او مؤسسة معينة بجزء من المسؤولية، بدءاً من البيت والاسرة ودور العبادة واهمية دورها في دعوة الناس الى عدم الاسراف والتبذير وضرورة الحفاظ على الموارد الغذائية وديمومتها، وكذلك لا ننسى دور المؤسسات الإعلامية في التثقيف على هذا الموضوع، إضافة الى وضع سياسات عامة متبناة من الدولة ومؤسساتها مثل تشجيع ودعم الصناعات الغذائية التحويلية المحلية ذات المواصفات التي تتميز بالاستخدام الأمثل للمواد الأولية واتباع النظم الاقتصادية فيها مثل التعليب، وكذلك إرساء ثقافة التغذية الصحية لدى تلاميذ المدارس بعيدا عن الاسراف والتبذير.