حياة «دينا سانيشار» القصيرة الحزينة

بانوراما 2021/07/31
...

 تيم برينكهوف    
 ترجمة: مي اسماعيل
 
نشأ «دينا سانيشار» مع الذئاب في غابات منطقة أوتار براداش الهندية، حتى عثر عليه الصيادون سنة 1867 وأحضروه الى الميتم. ثم صارت قصته المصدر الذي ألهم الكاتب «رديارد كيبلنغ» لرسم شخصية «ماوغلي-Mowgli». تتحدث رواية «كتاب الأدغال» لكيبلنغ عن ماوغلي؛ صبي تركه والداه واعتنت به الذئاب. وبينما تعلم كيفية العيش مع عالم الحيوان؛ فهو لم يعرف قط كيفية التعامل مع انسان آخر. تنتهي رواية كيبلنغ (التي تحولت لعدة أفلام سينمائية موجهة للأسرة، خاصة من انتاج مؤسسة ديزني) بتوجيه رسالة ايجابية عن اكتشاف الذات والانسجام بين الحضارة والطبيعة. لكن القليل فقط عرفوا أنها تستند الى وقائع حقيقة مؤلمة. أمضى دينا سنوات حياته الأولى تحت رعاية الذئاب؛ معتقدا أنه واحد منهم. وحينما اكتشفه صيادون نائما في أحد الكهوف، أخذوه الى حياة البشر. حاول المبشرون الذين يديرون الميتم تعليمه الطباع التي لم يتعلمها قط؛ بدءًا بالأساسيات: السير والكلام. لكن الفجوة بين السلوك البشري وغرائز الحيوان أثبتت اتساعها بحيث لم يستطع دينا التغلب عليها. 
في ليلة ما من ليالي سنة 1867 بمنطقة بولاندشهر- الهند، شق مجموعة من الصيادين طريقهم عبر الادغال فعثروا على فسحة بين الأشجار، كان خلفها مدخل لكهف يحرسه ذئب وحيد (حسب اعتقادهم). أعد الصيادون فخا لإقتناص تلك الفريسة الغافلة؛ لكنهم توقفوا حينما أدركوا أن ذلك الحيوان لم يكن حيوانا على الاطلاق؛ بل صبيا لا يتجاوز السادسة، لم يتقدم نحو الرجال ولم يُجب عن أسئلتهم. لم يرغب الصيادون بترك الصبي وراءهم على حدود الغابة الخطيرة؛ لذا أحضروه الى دار الأيتام بارسالية سيكاندرا في مدينة أكرا. وحيث أنه كان بلا اسم؛ فقد أعطاه المبشرون اسما؛ فأسموه «دينا سانيشار» وتعني يوم السبت باللغة الهندية؛ وهو اليوم الذي وصل فيه اليهم. 
 
التأقلم 
أثناء فترة بقائه في الميتم نال دينا اسما آخر: الفتى الذئب؛ وهو ما رأى المسؤولون انه مناسب له؛ لاعتقادهم أنه تربى مع الحيوانات البرية ولم يُجرب التواصل مع البشر طيلة حياته. وانسجمت تصرفات دينا مع الحيوانات أكثر منها للبشر؛ فقد كان يمشي على أربع ويجد صعوبة في الوقوف على قدمين، كما كان يتناول اللحم النيء فقط ويقرض العظام ليشحذ أسنانه. كتب «ايرهارت لويس» المشرف على الميتم يوما لزميل بعيد له عن دينا قائلا: «السهولة التي يتحرك بها على أربع (يدين وقدمين) تثير الدهشة، كما انه لا يتناول أي طعام حتى يشمه؛ واذا لم تعجبه الرائحة يرميه بعيدا». كان التواصل مع دينا صعبا لسببين: الأول أنه لا يتحدث ذات اللغة التي يتحدث بها المبشرون الذين كانوا يعتنون به. وحينما كان يريد التعبير عن نفسه كان يزمجر أو يعوي مثلما يفعل الذئب. والثاني أنه لم يفهم التعامل بالإشارة؛ فحينما لا يستطيع اشخاص لا يتحدثون اللغة نفسها التحدث مع بعضهم فإنهم يشيرون عادة الى الاشياء المختلفة ببساطة. ولكن لأن الذئاب لا تشير الى الأشياء (ولا تمتلك حتى الأصابع) فقد كانت تلك الوسيلة العالمية لا معنى لها عنده. رغم أن دينا تعلم في النهاية أن يفهم (التعامل مع) المبشرين، لكنه لم يتعلم مطلقا التحدث بتلك اللغة؛ ربما لأن أصوات الكلام البشري كانت ببساطة غريبة عنه جدا. كلما طالت فترة بقائه في الميتم تعلّم دينا التصرف كالبشر؛ إذ تعلم المشي على قدميه وارتداء الملابس بنفسه. ويقول بعضهم إنه التقط أيضا الخصلة الأكثر بشرية على الاطلاق: تدخين السكائر.
ليس الوحيد
للمفارقة، لم يكن دينا سانيشار طفل الغابة الوحيد الذي يعيش في ميتم ارسالية سيكاندرا بمدينة أكرا في ذلك الحين. إذ انضم اليه (وفقا لرواية المشرف لويس) صبيان آخران وفتاة تردَدَ القول أيضا أنهم تربوا لدى الذئاب. وحسب قول أحد الجغرافيين أن الميتم تلقى عددا من أطفال الذئاب بحيث لم يعد يستغرب حين يجري اكتشاف طفل آخر في الغابة. بل على العكس؛ لم يعد اكتشافهم يشكل أي مفاجأة جديدة. في الواقع ظهرت قصص الأطفال الذين ربتهم الذئاب في جميع أنحاء الهند، وكانت الارساليات التي تولت رعاية أولئك الأطفال مصدرها الوحيد؛ لذا فإن كون أولئك الأطفال جاؤوا من الغابة حقيقة أمر بقي قيد الجدل. يعتقد البعض أن الارساليات قد تكون اخترعت تلك القصص كسبا لاهتمام الاعلام. ويفترض آخرون أن أولئك الأطفال قد لا يكونوا تربوا مع الحيوانات اطلاقا؛ بل إنهم يعانون بالفعل اعاقات ذهنية أو جسدية. وفي تلك الحال قد يكون مصدر القصص أشخاص يقفزون الى الاستنتاجات عن تصرفاتهم. 
قد لا يمكن التحقق من مصداقية قصة حياة دينا سانيشار؛ لكن قصص أطفال آخرين يمكن إثباتها.. فهناك «أوكسانا ملايا» الفتاة الأوكرانية المولودة في تسعينات القرن الماضي، والتي ترعرعت مع الكلاب الضالة بعدما تركها والداها المدمنان على الكحول خارج المنزل عندما كانت طفلة. وعندما أخذها عمال الرعاية الاجتماعية لم تكن تستطيع الكلام وكانت تمشي على أربع. بعد سنوات من المعالجة تعلمت التحدث بالروسية، وهي اليوم تعمل في مزرعة لرعاية الحيوانات. أما الطفل الهندي «شامديو» فقد كان في الرابعة من العمر حينما عُثِر عليه يعيش مع الذئاب داخل احدى غابات الهند. ووفقا لما نشرته صحيفة «لوس أنجلس تايمز» أن شاميدو.. «كانت له أسنان حادة وأظافر طويلة معقوفة، ومناطق متقرنة الجلد في راحتيه ومرفقيه وركبتيه».. وقد توفي بعمر صغير... وكذلك توفي دينا.. 
كان دينا في الخامسة والثلاثين فقط عندما استسلم جسده لمرض السل عام 1895، ورغم أنه قضى الجزء الأكبر من حياته القصيرة بصحبة بشر آخرين بدلا من الحيوانات؛ لكنه لم يتأقلم تماما مع الحياة في الميتم. وسواء كانت حقيقية أو منمقة؛ فإن قصة حياة دينا سانيشار تعزف على وتر مشابه لرواية «كتاب الأدغال» لكيبلنغ؛ وهو تحديدا- افتتان الانسان بفكرة النشوء في عالم يختلف تماما عن عالمنا.