المياه.. مشكلة منطقة الخليج الكبرى

بانوراما 2021/08/04
...

 أليكس فاتانكا
 ترجمة: أنيس الصفار 
تقاسي إيران الظمأ، بل من المتوقع ان يكون هذا العام هو أشد الأعوام الخمسين الماضية جفافاً. يبلغ تعداد سكان هذا البلد 85 مليون نسمة يعيش ما يناهز 28 مليوناً منهم في بقاع مجدبة شحت فيها المياه، يقع معظمها في المناطق الوسطى والجنوبية. قلة المياه هذه تمتد آثارها لتعم شرائح المجتمع كلها، من الأسر التي تسكن المدن الى المجتمعات الريفية الزراعية. وهي ليست الدولة الوحيدة التي تواجه هذا البلاء، فمن بين 17 دولة الاشد جفافاً في العالم تقع 12 دولة في مناطق الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وبضمن هذه جميع الدول المطلة على سواحل الخليج. 
إيران وجيرانها العرب سوف يغنمون الكثير من معالجة التحديات المائية في المنطقة متى ما آمنوا بأن هناك حاجة للتعاون الاقليمي في ما بينهم، من اجل الارتقاء بأمنهم المائي وخفض الضرر الواقع على بيئة الخليج الى ادنى الحدود. في الحقيقة ان التعاون الاقليمي في هذه المنطقة ليس غاية صعبة المنال، وهو شأن لدى الرئيس الأميركي {جو بايدن} اسباب وجيهة كافية للحث عليه نظراً لحرص إدارته على مواجهة مشكلة التغير المناخي.
على مدى سنوات العقد الماضي دأبت الحكومة على استثمار الكثير من رأسمالها السياسي والمالي في التعامل مع مشكلة نقص المياه المستمرة بالتفاقم، وقد تضمن ذلك مبادرات للتوسع في استخدام وسائل تحلية المياه ونقلها من الخليج الى المحافظات الوسطى في إيران التي تعاني الجفاف. تتألف خطة نقل المياه، التي يجري العمل بها حالياً، من اربعة خطوط تجهيز رئيسة وعدد متزايد من محطات التحلية المغذية. من المتوقع لهذا المشروع ان تصل كلفته عند اكتماله في العام 2025 الى 285 مليون دولار، كما يتوقع المسؤولون ان يخلق نحو 70 ألف فرصة عمل.
المياه المحلاة سوف تزود قطاع الصناعات الثقيلة والقطاع الزراعي الواسع (الذي يستأثر لوحده بما يقارب 90 بالمئة من اجمالي الاستهلاك المائي في إيران) بحاجتهما. هذه الطريقة سوف تؤدي ايضاً الى ابقاء موارد المياه الجوفية الثمينة داخل الارض، الأمر الذي من شأنه الحفاظ على المياه المحلية للمجتمعات الزراعية ووقف موجات النزوح المتصاعدة من المناطق الريفية الى المدن غير المهيأة لاستقبال هذا التدفق من المهاجرين. في بعض انحاء البلاد أسفر شح المياه عن مصادمات مباشرة بين المجتمعات مع بعضها وكذلك بين الاهالي المحليين وقوات الأمن. بكلمة أخرى ان مشكلة المياه تمثل ايضاً تحدياً سياسياً مهماً على عدة مستويات.
قدرة طهران على التعامل مع أزمة المياه مرتبطة ايضاً بتحديات سياستها الخارجية، لأن ازمة المياه المتفاقمة لم تنجم فقط عن مواسم الجفاف المتعاقبة على مدى السنين الماضية، بل توافقت مع فرض الحزمة الأخيرة من العقوبات الأميركية التي كانت أقسى عقوبات يتعرض لها بلد من البلدان. بالمقابل ضاقت قدرات البلاد المالية الى اقصى الحدود ومعها ضاقت إمكانيات الحصول على احدث التكنولوجيا المائية المتاحة.
كذلك كان من نتائج قرار واشنطن بإيقاف صادرات النفط الإيراني ان توجهت طهران للبحث عن مصادر دخل بديلة، ومن بين هذه المصادر صناعات تتطلب كميات كبيرة من المياه، مثل البتروكيمياويات والتعدين وصناعة الصلب. هذه الصناعات كانت الاكثر جاذبية نظراً لوجود زبائن تواقون اليها في آسيا، مثل الصين، وهؤلاء مستعدون للالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة. بكلمة اخرى أخذ هذا الاقتصاد، الذي يواجه اصلاً تحديات مائية، يسعى الى تنويع موارده على نحو يسهم في زيادة استهلاك الماء. في العام 2000، وقبل ان تبدأ طهران بمواجهة جولات العقوبات المتتابعة، كان قطاعا الصناعة والتعدين يستهلكان نحو واحد بالمئة من إمدادات الماء السنوية، وهذه النسبة يتوقع لها ان تصل الى 3 بالمئة خلال العام 2021. في محافظة أصفهان وسط البلاد، وهي مركز لكثير من الصناعات الثقيلة، قد اوشكت الانهار على الجفاف.
 
تحلية مياه الخليج
في خضم هذه الدورة التي لا تهدأ من محاولات سد الاحتياجات المائية المتزايدة لم تبذل السلطات جهداً يذكر على صعيد خفض الاحتياجات العامة لمواطنيها، حيث تشير احدث الارقام المتوفرة من العام 2011 الى أن الحاجة اليومية المثبتة للفرد هي 5100 لتر (اي انها مماثلة لدول مثل فرنسا والدنمارك وسويسرا التي لا تواجه مصاعب مائية مماثلة). بدلاً من ذلك يسعى هذا البلد الى توفير مزيد من المياه، وهنا تزايد بروز تحلية المياه كحل سحري للمشكلة.
إيران هي آخر اللائذين بتحلية المياه كحل لمشكلتها، فدول الخليج العربية قد سبقتها الى ذلك منذ وقت طويل لسبب واضح هو عدم توفر البدائل المناسبة. هذه الدول تؤمن ما يتراوح بين 55 و 100 بالمئة من احتياجاتها المائية عن طريق التحلية، اما إيران فإن مياه التحلية بالنسبة لها لا تمثل سوى واحد بالألف من احتياجاتها، غير أن طهران تأمل في رفع هذا الرقم سريعاً للتعويض عن الانخفاض القياسي في معدلات سقوط الامطار.
بوجود ما يقارب 850 محطة عاملة لتحلية المياه حالياً في منطقة الخليج، ووجود 8 من اكبر 10 محطات تحلية على مستوى العالم في السعودية والامارات، اصبح اللجوء الى تحلية المياه يثير اسئلة صعبة متزايدة تتعلق بالبيئة. فبناء محطات التحلية، التي تسحب المياه من البحر ثم ترد اليه الفضلات الحاوية على نسب مرتفعة جداً من الملح دون معالجتها، له تأثيرات ضارة على انظمة البيئة البحرية. كذلك فإن العملية مستهلكة نهمة للطاقة وهذا يساهم في انبعاث غازات 
الدفيئة. 
اسباب القلق على البيئة آيلة للتصاعد، فوفقاً لأحد التقديرات هنالك في دول الخليج حالياً مشاريع تحلية قيد التخطيط بقيمة تعادل 100 مليار دولار. هذه المشاريع ستكون مسؤولة بشكل مباشر عن توفير الماء العذب، ولكنها مسؤولة ايضاً عن طرح النفايات الجانبية الضارة المصاحبة للعملية. الرقم المذكور لا يدخل بضمنه ما تخطط له إيران، التي يفوق تعداد سكانها مجموع سكان دول الخليج معاً والتي قد تشهد احتياجاتها الى الماء العذب تصاعداً سريعاً. في سباق التحلية تمتلك دول الخليج الموارد المالية والمنافذ المناسبة، التي تمكنها من الحصول على احدث تقنيات التحلية، التي تكون بالتالي أقل اضراراً بالبيئة. لكن طهران ستبقى، تحت ظل القيود مرتبطة بتقنيات التحلية القديمة، ومن ثم لن تستطيع الحد من الاثار السلبية لمشاريعها في التحلية، سواء الحالية او المخطط لها مستقبلاً. 
رغم التحديات المائية التي تشمل بآثارها جميع الدول المتشاطئة لا نجد وكالة او جهة اقليمية قادرة على التعامل معها. فالسعة الخزنية لدول الخليج لا تتعدى سد حاجتها الاستهلاكية من مياه الشرب لبضعة ايام، وفي حالة حدوث ازمة في التجهيز فإن هذه الدول المتشاطئة لا تمتلك وكالة متعددة الاطراف يرجع اليها. وكالة واحدة فقط تأسست في العام 1979 للتعامل مع هذا الشأن هي {المنظمة الاقليمية لحماية البيئة البحرية}، وهذه قد انتهت ولم يعد لها الان فعل او نشاط. ربما يكون الوقت قد فات على احياء المنظمة المذكورة او تأسيس كيان مشترك مشابه لها يتولى مهمة المتابعة ويكون وسيطاً يسهل تسيير كل ما يتعلق بالتحديات البيئية في المنطقة. لا شك ان المنطقة ستحصد اعظم الفوائد من وجود ولو قدر بسيط من التنسيق حين يتعلق الأمر بالسياسة والأمن المائيين، وهذا يتضمن ابتكار سبل واساليب لخفض النفايات الجانبية، التي يبدو أنها نتاج حتمي لعملية التحلية، الى ادنى الحدود والتعامل معها.
 
حوار المصالح
كقاعدة عامة تميل إيران ودول الخليج الاخرى عموماً الى تبني نهج الأمن المركزي في سياستها المائية، ولهذا فإن صيد الاسماك الجائر والنمو السريع في تطوير المناطق الساحلية وتصاعد نسب الملوحة في مياه الخليج، كلها مسائل تفرض على الدول المتشاطئة السعي لإيجاد حلول لتحديات سترتد آثارها عليهم جميعاً. وتقع دول المنطقة وسط شراك مأزق لا مخرج منه لأنها تعتمد على تصدير النفط والغاز المضرين بالبيئة، وفي الوقت نفسه فإنها الدول الأشد عرضة لاثار التغيرات المناخية نظراً لمؤشرات الحرارة المرتفعة لديهم ونقص 
المياه.
تعي بلدان الخليج هذه الحقيقة جيداً لذلك، ولاسباب اخرى ايضاً، باشرت منذ الان تطبيق خطط هدفها تنويع الاقتصاد للتحول تدريجياً عن انتاج النفط، ولكن سيترتب عليهم ابان ذلك بذل أقصى الجهود لمعالجة تحديات التدهور البيئي. الارتفاع القياسي في درجات الحرارة ونقص المياه هما العاملان الابرز في جعل الزراعة غير ممكنة في انحاء عديدة من الشرق الأوسط، ومن المحتمل ان تنشأ عن ذلك {هجرة مناخية} واسعة ضمن المنطقة وهو خطر مشترك ينبغي أخذه بالاعتبار عند وضع الخطط لتنويع الاقتصاد.
وجاءت مشكلة نقص المياه المتفاقمة في وقت بدأت بعض دول المنطقة بتلمس المجالات الممكنة والطرق، بحثاً عن حلول مشتركة للمشكلات المشتركة، حيث شهدت الاشهر الاخيرة استئنافاً هادئاً للمفاوضات بين الإيرانيين والسعوديين بهدف تجديد العلاقات. ومع أن الاهتمام يتركز أساساً على التحديات الجيوسياسية يمكن القول إن المبادرات البيئية في المنطقة، ربما ستكون من بين السبل الأقل وعورة لتحقيق التعاون الممكن.
على خلاف صراعات الخليج الجيوسياسية يمكن وضع المصالح البيئية بين الاطراف المختلفة وفق صيغة يتقاسم فيها الجميع المنافع والتكاليف ولا يخسر احد، فلا المشكلات يتحمل عبء حلها طرف دون طرف ولا المنافع المتحققة من معالجتها ستصب في صالح بلد دون آخر. في غضون ذلك قد يفتح العمل المشترك لحل مشكلة المياه الطريق امام التعاون المثمر في جوانب أخرى. 
من الممكن ايضاً ان توفر إدارة بايدن، من خلال مشاركة المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون المناخ {جون كيري}، الفرصة والدعم الدبلوماسي لدفع جهود التعاون في مجال البيئة بين إيران ودول الخليج. فعندما زار كيري دولة الامارات لحضور {مؤتمر حوار المناخ الاقليمي} في شهر نيسان التقى بممثلين من الامارات والكويت ومصر والبحرين وقطر والعراق والاردن والسودان وعمان، ولكن غياب إيران عن المؤتمر كان ثغرة صارخة. تلك حقيقة لا يمكن انكارها، وما لم تصحح فسوف تضعف امكانيات التوصل الى منهج اقليمي جماعي لمواجهة التحديات البيئية المشتركة في الخليج. وإذ تمضي ادارة بايدن في تلمس الطرق التي تمكنها من التعامل مع إيران على نحو يحقق المنفعة المتبادلة، في وقت تنشد فيه دول الخليج معاً خفض التوترات مع طهران، فإن ميدان التعاون البيئي ومجابهة مشكلة التغير المناخي تتيح منفذاً لخروج الجميع بالمكاسب فائزين.