عشق لبناني كبير لسحر اللهجة العراقية وشعرها الشعبي

ثقافة شعبية 2021/08/14
...

  بيروت: جبار عودة الخطاط 
ما أن يقترب شهر محرم  حتى ترى الردات الحسينية تصدح من المحلات والعمارات السكنية في الضاحية الجنوبية في بيروت وهي تردد النشيد الحسيني الخالد باللهجة العراقية الزاخرة بالشجن الفريد الذي يعشقه اللبنانيون، عبر مكبرات الصوت لتصافح الأسماع والأرواح بـ (الحسچة) العراقية لباسم الكربلائي والملا قحطان البديري والسيد فاقد الموسوي وغيرهم. 
 هؤلاء المنشدون كان لهم وقع السفير الشجي للهجة العراقية التي انتشرت بشكل واسع في الضاحية الجنوبية من بيروت والجنوب، وبعلبك الهرمل وكان لهذه {الردات} الفعل السحري في التعريف باللهجة العراقية،
 
 ولا أخالني مغالياً بالقول إنها لامست في فعلها ما نشرته الاغنية المصرية بأساطينها المعروفين، أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش، وأضرابهم، فضلاً عن السينما المصرية ابان الستينيات والسبعينيات والثمانينيات حينما نشرت على نطاق واسع اللهجة المصرية في سائر بلدان الوطن العربي، وحتى لا أقع في مطب المغالاة أقول أني أشير الى التأثير في نشر اللهجة فحسب، فلا يذهب الاعتقاد بأحد الى مسارات أخرى، نعم أحسب بأن للردة الحسينية التي انتشرت بقوة في لبنان وبلدان أخرى تأثيرا كبيرا في التعريف باللهجة العراقية، لكن الأمر بقي مرهوناً بعوامل دينية ومذهبية، لذا كان التأثير يدور في مناطق يقطنها جمهور من لون مذهبي معين، مع استثناءات لا أستطيع تحديد حجمها في مناطق أخرى، فلا نستغرب من انتشار اللهجة العراقية مثلا في مناطق معروفة في سوريا، بريف دمشق وتحديداً في المناطق المتاخمة لمرقد السيدة زينب (ع)، وفي مناطق واسعة من إيران فضلا عن المناطق اللبنانية (مثار بحثنا). 
 
اللهجة والقارورة
ثمة عشق عجيب لدفء اللهجة العراقية لمسته هنا في بيروت، فما أن يعرفوا بأنك عراقي حتى يبادروا الى مشاكستك بطريقتهم البريئة {إشلونك أغاتي} و{شكو ماكو} وغيرها من المفردات العراقية، ويقول الرادود الحسيني اللبناني منتظر عودي: {للهجة العراقية سحر لا يدانيه سحر آخر، فأنت ما أنت تسمع باسم الكربلائي مثلا حتى تنتقل فعلاً الى عالم آخر هو مزيج من عبق القضية الحسينية، وجمال اللهجة العراقية التي لا أعتقد أن هناك لهجة تصلح لتكون البديل عنها في تجسيد واقعة الطف}، ويضيف عودي {إن المنشد الكبير باسم الكربلائي سجل تطوراً كبيراً، ويمكن القول إن تعاونه مع الشاعر الشعبي العراقي أحمد الذهبي شكل إضافة كبيرة للمكتبة الإنشادية الحسينية، والمثال قصيدة القارورة التي جسدت جمالية اللهجة العراقية اللذيذة:
أول مراسيل الحزن
 نسمة هوه جايبته الي
مخنوگ اجه بصدري النفس
شميته بي ريحه هلي
من والدي جايب عطر
مو ذاك عطره الاولي 
بيه ريحة الفاكد ولد
يمكن مشه الاكبر علي
 
اندماج
أما الباحث اللبناني الشيخ عباس غصن وهو من تلاميذ المرجع والمفكر الإسلامي محمد حسين فضل الله فيقول لـ {الصباح}: { هناك عدة أسباب جعلت اللبنانيين يحبون اللهجة العراقية، والشعر العراقي، أهمها هجرة طلاب العلم اللبنانيين الى العراق لدراسة علوم أهل البيت في حوزتي النجف الأشرف وكربلاء وعودتهم بعد سنوات، اذ كانوا يحدثون الناس باللهجة العراقية لاعتيادهم عليها}، ويضيف غصن {ان العلماء لهم محبة واحترام عند الناس لذلك تجد بعض القريبين منهم وحتى لو لم يدرسوا في العراق، راحوا يتحدثون بلهجتهم العراقية تأثرا، وخلال أيام عاشوراء كان  قراء العزاء معظمهم من العراق أو ممن درسوا فيه، وقد اندمجت اللهجة العراقية بالشعر الحسيني، وكان لذلك الأثر الأكبر على حب الناس لهذه اللهجة}.
{يبني ضلعك من رجيته}
ويتابع قائلاً {وقسم ثالث من الناس أحبوا الشعر العراقي لأنهم وجدوه يلامس حياتهم ومعاناتهم وآلامهم وآمالهم، فأذكر في صباي أنني تأثرت كثيرا بشعر عمالقة من العراق من أمثال الجواهري والبياتي والنواب، الذين عبروا عن تفاعلهم مع قضايا الشعوب المستضعفة والمظلومين حتى أنني كنت أستمع الى أشرطة كاسيت لما يعرف بالقصائد المهربة لمظفر ومن حبي له حفظت معظم أشعاره، كالريل وحمد و{يبني ظلعك من رجيته} وغيرها، وقد أعددت أطروحتي للماجستير حول الوظيفتين الاحالية والشعرية في شعره.
ويردف {ولعل ثورة الاتصالات الحديثة هيأت للبنانيين فرصة الاستماع الى مختلف الخطباء والرواديد العراقيين حتى باتت أصواتهم تصدح من البيوت  اللبنانية خصوصا في شهري محرم وصفر}.
 
الغناء العراقي
ويختم غصن كلامه بالقول {أجزم أنه لا توجد لهجة شعبية منتشرة في لبنان لأي بلد عربي كاللهجة العراقية الحميمة والدافئة في مفرداتها، التي يرددها الصغار والكبار}، وثمة واقعة حصلت أثناء ندوة كان يقيمها المرجع الراحل محمد حسين فضل الله رحمه الله في دمشق مطلع الثمانينيات، اذ تقدم منه أحد العراقيين بالسؤال {مولانا الغناء حرام}؟، فرد السيد فضل الله والابتسامة تعلو محياه {وانتم العراقيين هم معتبرين الغناء العراقي غناء؟}، والسيد فضل الله هنا يريد القول بما مضمونه - كما ينقل أحد الثقاة- بأن الغناء العراقي لاسيما السبعيني منه بما يكتنزه من شجن وحزن شفيف هو أقرب للردة الحسينية الموغلة في التراجيديا العاشورائية.