ترتبط الحالة الإبداعية للإنسان بالحرية، بما هما سمتان يختص بهما الإنسان وحده دون سواه، حيث لا يمكن لأحد القيام بأي عمل ويداه مكبلتان، فما بالك الإبداع فيه.! فلا يمكن الحديث عن عملٍ متقنٍ مبدعٍ في مجتمعٍ مغلق.. بعقولٍ متحجرة وأيدٍ مغلولة ونفوس مريضة، الحرية هي الأداة أو الوسيلة بل هي الحتميَّة الوحيدة التي تأخذ بيد الإنسان كائناً من كان، لتضعه على الطريق الصحيح، وتساعده على تحقيق ما يسعى إليه، ما يحلم به، والوصول إلى ذلك المكان الذي يريد.
سيقول قائل إنَّ أعظم الأعمال نبعت من المعاناة، وأفضل من كتب مثلاً عن أدب السجون كان سجيناً.. ووو إلخ من اعتراضات هي في محلها!. لكنَّ ذلك الكاتب السجين ما كان ليبدع نصه لو بقي في سجنه، لولا الحريَّة ما انطلق عقله وفكره وكتب ما كتب.
ليكون الإنسان مبدعاً لا بُدً أنْ يتحرر أولاً من قيود السلطات الثلاثة.. السياسية والدينية والاجتماعية، بأنْ ينعتق من سجون السلطات المستبدة وأغلالها، يتحرر من أصفاد التعسف والتعصب الديني المطبق على أنفاس الناس، وأيضاً الخروج من قمقم العادات والأعراف والتقاليد البالية السائدة في مجتمعه
كسر تلك القيود وتحطيم الطوق الذي يخنقه، لا يكتمل إلا بتحرره داخلياً، بأنْ يرتضي لنفسه تلك الحرية، أنْ يؤمن ويقتنع بها وبجدواها، فما نفعك إنْ عشت في بلدٍ يمنحك كل حقوقك وحريتك، وأبقيت على عقلك مريضاً متصلبناً مؤمناً بأفكار قرون مضت، حاملاً سيف تقاليد متخلفة تضرب بها، ميمماً وجهك صوب رجال يتلون عليك من تيسر لهم من مبررات رفض ومن ثم قتل الآخر، منشغلين وشاغلين بالك بكيفيَّة دخول الأبواب «بالقدم اليمنى أم باليسرى». ما فائدة حرية خارجية عنئذ؟.
لكي تبدع عليك بالتمرد، أنْ تمتلك تلك الروح المتمردة الشغوفة بالتغيير، أنْ تعيش قلق الإبداع والحرية والتجديد، تمرد على الموروث الثقافي والاجتماعي والديني المتخلف، الذي ما فتأ يحكم إغلاق العقول، وعصب العيون، وسوق المجتمعات كقطيعٍ أعمى.
ما بين الإبداع والحرية شعرة لا يجوز قطعها، فما من أمة نهضت إلا بعقول علمائها ومنجزاتهم العلميَّة، تلك التي رفعت أفقر الدول إلى مصاف الدول الغنية الكبرى، أمثلة كثيرة عن دول تحولت من فقيرة إلى واحدة من أعظم الدول في العالم، بلاد يحسب لاقتصادها ألف حساب، في الوقت الذي يسعى العرب إلى زيادة أعداد المنابر وإغلاق مصادر العمل بحجج شتى، وانتظار الفرج من قوى غيبيَّة، وإذا ما تعرض أحدهم لكارثة، دبَّ الصوت واستجدى الأصدقاء للمساعدة، أما لو يوماً سول عقل أحد بإنجاز واختراع ما، أو تطوير تقنية تسهمُ في تحسين الإنتاج، فويل له! تقفل عليها أدراج وربما تخفى تحت سابع أرض مع صاحبها.
لماذا يبدع الإنسان العربي خارج بلاده؟ سؤال بريء لا يحتمل كثيراً من التفكير، إنها الحرية التي توفر له وتطلقه في فضائها الرحب، فإنْ عمل أبدع، وإنْ أنتج أدهش، متى نتعلم؟ متى يأتي يومٌ نستثمر فيه عقول أبناء بلداننا بدل تصديرها إلى الخارج؟. ألا تخجل بلاد الخصب من جوع أبنائها؟. «ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع.. الويل لنا».