تحفل النقدية الحديثة بمفاهيم ومصطلحات جديدة ومهمة، يستدل منها على أن كتابة الرواية أو أي عمل فني آخر، ليست بالسهولة التي يتصورها البعض منا، فلا تكفي المعلومات الشخصية عن أي موضوع لكتابة نص عنها، وقد يحدث مثل هذا الفيض من الكتابات عندما يشترك عدد كبير من الكتاب بظروف معينة كالحروب، أو المجاعة، أو الإرهاب، مكنتهم المعايشة لها من أن يروا مجتمعهم عبرها، عندئذ يكون من السهل على أي منهم أن يكتب عن هذه الظروف ويدعي أنه قادر على استيعابها، والتمكن من القول فيها. وقد يبرر هذا ما ينشر كثيرا في أدبنا من أنه حق من حقوق الكتاب الشباب الذين مروا بمنعرجات سياسية واجتماعية وحالات، شكلت خزينا لأوليات الكتابة عندهم. لكن الكتابة ما وجدت للتعبير عن موقف شخصي، وعن حالات مررنا بها، وإلا كانت كل حياتنا عبارة عن سلسلة لا متناهية من الكتابات، ثمة شيء غامض في علاقاتنا بالعالم هو الذي يستدعينا للكتابة عنه، هذا الشيء نكتشفه عندما نضعه في سياق معرفي أوسع من محليته، عندئذ ستكون الكتابة عنه مندمجة بالعالم، ومن هنا يتطلب الأمر أن نبحث عن الخصوصية الفنية التي تميز كتابتنا عنه، كي تكون مبررة، ويكون الحدث جديرًا بأن يكون ضمن اهتمامات أوسع.
في ضوء ذلك كثيرا ما نسمع ونقرأ أن النصوص الفنية والأدبية تحتوي على شقوق وحفر ومكامن، وخفايا، وجحور، ومنعرجات، ومختفيات غير ظاهرة في بنيتها، وعلى القارئ والناقد أن يبحثا عن هذه الفجوات والشقوق وأن تُملأ لأنها منوطة بذكائهم ومعارفهم، وقدرتهم على ملء ما فات على المؤلف أن يملأه. فمثل هذه الأمكنة المابينية، واحدة من طرائق التفكير، في النصية، من أنها مهما كانت جيدة ومهمة، تحمل فجوات وشقوق وثنيات وطيات غير مكتشفة
، وأن هذه الفجوات والطيات تختزن أفكارا وممارسات لم تظهر على السطح كي يراها المؤلف، إنها جزء من بنية المحتجب والمختفي والاختلاف، ولذلك لايمكن أن تسير بقراءة النص دون أن تفكر أن فيما وراء النص ثمة نص محتجب أو مخف وأن الفجوات والمابينيات تدل على أن أي نص غير مكتمل إلا بالقراءة الجدلية، القراءة التي تشكف عن المخفي. " فتتطلب ( القراءة الجدلية) في المحل الأول أن نمضي إلى ما هو أبعد؛( من الظاهرة التي نراها أمامنا) فلكي نعرف موضوعًا معرفة حقيقة يجب أن نلم بكل أوجهه وصلاته وأشكال توسطه، ولم نحقق أبدًا ذلك بطريقة كاملة لكن بطلب الإحاطة بكل الجوانب، يقينا من الأخطاء
والجمود".
لا نتصور أن الفجوات و الثنيات والطيات والمخفيات في العمل هي أشياء متعمدة يلجأ إليها المؤلف، إنما هي موجودة في الظاهرة نفسها، ولكن المؤلف تجاوزها لأنها قد تفرض مسارا مغايرا لسياق عمله، وقد يكون لاواعيا بها، ومن هنا تكون هذه المخفيات من مهمة القارئ، الذي يعيد تأليف النص ليس كتابة، وانما تصورًا وثقافة ومعرفة، وهي أدوات مغايرة لأدوات التأليف، لذلك تتكشف مثل هذه الفجوات في العمل للقراءة الفلسفية، للقراءة الإجتماعية، للقراءة النفسية، للقراءة اللغوية، وكل هذه القراءات لم تكن من مهمات المؤلف. لان مادتها مختفية في طيات العمل اللامرئية.