الأطفال المفقودون والطمس الثقافي

بانوراما 2021/08/16
...

 أيان أوستن 
 ترجمة: مي اسماعيل
أثار اكتشاف بقايا بشرية مدفونة ضمن أراضي مدارس داخلية للهنود (السكان الأصليين) جدلا واسعا حول الإرث الثقافي القاتم لكندا تجاه سكان القارة الأصليين.
أحيانا كان أفراد شرطة الخيالة الملكية الكندية يأتون لاصطحابهم، وأحيانا حافلة المدرسة؛ وكيفما جرى الأمر لم يكن لأسر السكان الأصليين في كندا خيار سوى إرسال أطفالهم (لأجيال عدة) الى المدارس السكنية؛ وهي مدارس داخلية تديرها الكنيسة وتمولها الحكومة الكندية- قسم الشؤون الهندية؛ 
 
 
أنشأتها لتمييع ثقافتهم ولغاتهم واحتوائهم ضمن المجتمع الكندي.. وفي العام 2015 أعلنت {اللجنة وطنية للحقيقة والمصالحة} أن تلك المدارس، التي استمرت بالعمل منذ القرن التاسع عشر في العام 1883 وحتى القرن العشرين سنة 1996، كانت شكلاً من أشكال “الإبادة الثقافية}. لكن الضرر العميق لم يتوقف عند ذلك؛ إذ وثقت اللجنة انتهاكات جسدية وجنسية ونفسية واسعة النطاق في المدارس، التي كانت غالبا شديدة الاكتظاظ وتعاني نقصا في الموظفين والتمويل؛ وجلبت الأمراض والحرائق وسوء التغذية الموت والمعاناة إليها. والآن عاد الشعور العام بالخزي لتلك المدارس الى الأضواء من جديد.
 
لم يعودوا أبدا
منذ شهر ايار الماضي أتاحت التكنولوجيا الجديدة فرصة اكتشاف بقايا بشرية (غالبيتها لأطفال) في عدة مئات من قبور مجهولة لا تحمل أسماء، ضمن أراضي ثلاث من المدارس السكنية السابقة بكندا؛ اثنتان في كولومبيا البريطانية واخرى في ساسكاتشوان. وقد لا يُعرف أبدا من كانوا وكيف ماتوا ومتى.. لكن مجتمعات السكان الأصليين تعتقد أن تلك البقايا هي لبعض من آلاف اليافعين الذين أُرسلوا الى المدارس ولم يعودوا أبدا، ويقدر عددهم حاليا بنحو عشرة آلاف الى خمسين ألفا؛ ويُعرفون بتسمية {الأطفال المفقودين}. كان هذا الاكتشاف بالنسبة لأسرهم توكيدا لروايات الناجين من تلك المحنة ومصدرا جديدا للصدمة. 
نادرا ما كانت أجساد الأطفال الذين يموتون في المدارس تعاد الى أسرهم، ولم تقدم الا أقل التفسيرات (وأحيانا من دونها) الى والديهم عن مصيرهم. انتشرت الأمراض؛ خاصة السل ووباء الانفلونزا الاسبانية (الذي أعقب الحرب العالمية الأولى) واجتاحت الردهات المكتظة، وكانت الحرائق المهلكة والحوادث أمورا شائعة الوقوع. فر عدد غير محدد من الأطفال، ليموتوا وهم يواجهون الظروف الطبيعية أو سوء المغامرة أثناء محاولة العودة الى منازلهم البعيدة. كان العنف الجنسي والجسدي منتشرا على نطاق واسع في تلك المدارس؛ ومن المحتمل أن يكون أحد أسباب الوفاة؛ سواء بشكل مباشر أو بالانتحار.
نادرا ما تكشف الصور الفوتوغرافية التي توثق تاريخ تلك المدارس الردهات المزدحمة والاساءات أو الظروف السيئة الأخرى؛ لكنها تكشف بشكل صارخ عن جهود النظام الدؤوبة لتغيير ملابس الطلاب التقليدية وتسريحات شعورهم ومعتقداتهم الدينية. كان على جميع الصبيان الذين يدخلون المدرسة قص شعورهم، ولم يُسمح لهم بالاحتفاظ بضفائرهم؛ وكان الطلاب يُعاقبون (بالضرب أحيانا) إذا ما تحدثوا بلغتهم الأصلية بدلا من الانكليزية أو الفرنسية.
نشأ نظام المدرسة السكنية من {قانون الحضارة التدريجية} لعام 1857؛ الذي فرض على رجال السكان الأصليين تعلّم القراءة والكتابة باللغة الإنكليزية والفرنسية، ونبذ أسمائهم التقليدية لصالح ألقاب توافق عليها الحكومة. أجاز السير {جون ماكدونالد} أول رئيس وزراء لكندا اقامة نظام لمدارس أطفال السكان الأصليين في مناطق غرب كندا عام 1883، وتدريجيا ضم هذا النظام نحو 150 مدرسة، أقيم بعضها في مناطق نائية.
 
تجميد الثقافة الأصلية
أظهرت بعض الصور الفوتوغرافية من تلك الحقبة شيخا من السكان الأصليين (الذين يسمون اليوم- الأمة الأولى) مع أطفال في مدرسة {كوابيل} الهندية الصناعية بمنطقة ليبريت، التي باتت تدعى- ساسكاتشوان. يبدو التناقض واضحا بين ملابسه التقليدية وملابسهم الغربية، وبين ياقته المصنوعة من ريش الطيور وياقاتهم من الدانتيلا الأوروبية. أدارت كنيسة الروم الكاثوليك نحو سبعين بالمئة من المدارس السكنية، وكانت المدارس المتبقية تحت سيطرة ثلاث طوائف بروتستانتية. فكان التعليم الديني جزءا حيويا من المدارس؛ التي رأت فيها الكنائس رسالة لتحويل السكان الأصليين الى المسيحية. 
بسبب تلك المدارس نشأت أجيال من السكان الأصليين بخبرة محدودة في أن يكونوا تحت رعاية أبوين، وعانوا غالبا من الصدمة بسبب ما مروا به. لكن النظام فرض تفريق الأسر والإساءة، وكان له تأثير عميق على السكان الأصليين الذين ولدوا بعد ما وضعت المدارس تحت السيطرة الحكومية عام 1969. وقد أغلقت آخر هذه المدارس بعد ثلاثين سنة. فشل النظام أيضا بشروطه الخاصة، ولم ينجح مطلقا في تحقيق هدفه بإبعاد ثقافات السكان الأصليين. 
شهدت العديد من مجتمعات السكان الأصليين حركة لإحياء لغاتهم الأم وممارساتهم الثقافية؛ ويراها البعض جانباً مهماً للتخلص من إرث المدارس؛ وتزامنت مع التفاوض لاستعادة أراضيهم والحصول على المزيد من الحكم الذاتي. 
منذ افتتاحها سنة 1883 وحتى اغلاقها عام 1996، إلتحق نحو 150 ألف طفل بتلك المدارس، وأقرّت اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة (التي شكلت ضمن برامج اعتذار حكومي وتسوية موقف قضية المدارس) أن نحو 4100 تلميذ على الأقل ماتوا أثناء وجودهم فيها؛ توفي العديد منهم بسبب سوء المعاملة والإهمال، وآخرون بسبب الأمراض أو الحوادث. ولم تعرف الأسر (في حالات كثيرة) مصير أبنائها؛ الذين أُطلق عليهم- الأطفال المفقودون. وقد عثر مؤخرا على 215 رفات أطفال في مدرسة {كاملووبس- Kamloops» التي بقيت مفتوحة حتى سنة 1969. كما عثر على رفات 751 شخصا (غالبيتهم من الأطفال) في موقع مدرسة {ساسكاتشوان} الداخلية السابقة. الآن يعتقد {موري سنكلير}؛ القاضي السابق والسيناتور الذي ترأس اللجنة الوطنية أن عدد الأطفال المفقودين يفوق العشرة آلاف. أما {جوي ديجارلايس} (73 سنة) الذي أُجبر على ارتياد مدرسة Muskowekwan الهندية السكنية في ساسكاتشوان، وكذلك والداه وأجداده ووالداهم؛ فيقول وهو يقف على أطلالها: {قد يظهر شيء جيد من كل هذا؛ فأطفالنا يريدون معرفة الحقيقة وما مررنا به وما دار هنا، وعليهم معرفة تراثنا حتى يستعيدوه على الأقل..».